5) النخل (وَنَخۡلٗا) :

سبق الكلام على النخيل في التوتيب الوجودي وهو الآن يأتي في الرتبة الخامسة للنظام الغذائي القرآني، وهو في الواقع يأتي بخصائص غذائية يتفرد بها ويتميز عما سبقه من الأغذية المذكورة في الآية الشريفة..

يعتبر التمر أصلح انواع الطعام وأنفعها حيث يغيب على كثير من الباحثين في الدين علوم أو الدنيا التوزيع الطبيعي للأغذية عبر الأزمان والأمكان... فمن تأمل التمر يجده كان معظم غذاء الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم سيد الأولين والآخرين رسول الله عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم (وهذا موضوع آخر ذو شجون، ربما سبق بعض الكلام عليه) ومن تأمل سنته الفعلية الشريفة في الأكل والشرب، وجب عليه أن يؤمن حق الإيمان أنها الطريقة المثلى للنظام الغذائي السليم من ناحية طبيعة الطعام ونوعه وكميته وطريقة تناوله (هذه سنته صلى الله عليه وسلم الفعلية في الأكل) ومن ظن أن انفراط النّعم التي نراها في أيامنا وعلى مآذبنا هي خير كله فهو واهم .. ومن أراد أن يتأكد فليسأل الاختصاصات الطبية: ما هي أسباب الأمراض المزمنة والقتالة والفتاكة؟؟ وبالتالي هل يموت الناس من الجوع.. أو الإسراف في الطعام؟؟؟...

جاءت الآية الشريفة بالتمر في السلسلة الغذائية على هذا الترتيب لتكمل حاجات الإنسان في المواد المغذية والنافعة، حيث يجمع التمر في خصائصه غذاء وطاقة في آن واحد، فهو يحتوي على نسبة عالية من الكربوهدرات مقرونة بكمية مقاربة من السكر، مصحوب ببروتينات وذهون وماء وألياف غذائية، كما أنه تحتوي على كميات هائلة من الفيتامينات منها فيتامين A وفيتامين B1 وB2 و B3 وB5 و B6 وB9 وفيتامين E و K ... و كذلك بعض المعادن القيمة كالسيلنيوم والحديد والمغنيزيوم والمنغنيز والفسفور وكثير من البوتاسيوم وكذلك الصوديوم والزنك...

وهذا يجعل من التمر صيدلة متكاملة بدون مختبر ولا تجهيزات، وطعاما متكاملا بدون تقنيين ولا فنانين، حلو الطعم جميل اللون رقيق الملمس... ذلك هو ثمر النخل...

وفي الأسماء الغذائية الخمس كما ورد في ترتيب الآية العظيمة دلالات نورانية، من حللها على حروفها وربطها بالاختصاصات في الجسد الإنساني فإنها تظهر له خريطة بناء عظيم لهذا الجسد البشري من التزم بها عرف العافية، ومن عرفها ودل عليها نفع الناس علما وعملا... وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..

أما ما تبقى من الآية الكريمة فهي تدل على تقنيات الانتفاع وعمليات الإكثار قال تعالى: ٢٩ وَحَدَآئِقَ غُلۡبٗا ٣٠ وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّٗا..

فالحدائق هي جمع الأشجار المثمرة حتى تسهل خدمتها وتحسن العناية بها حتى تكون غلبا، يعني كبيرة وذات ثمار كثير ونافع... ومعها أو بجوارها تكون نباتات أخرى تنفع للتفكه ولغير ذلك مما ينفع للطاقة أو المتعة أو لغذاء الأنعام، وذلك قوله تعالى: مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ ٣٢..

هذا باختصار شديد بعض ما تدل عليه هذه الآية العظيمة، ومن عمق فيها النظر يجد أن أسرارها أكثر بكثير مما يمكن أن يخطر على بال الباحث الحادق.. فمن نظر إليها من حيث الانتفاع الغذائي يجد الترتيب له أهمية على الإنسان أن يحترمها ويعمل به كبرنامج غذائي متكامل.. ومن نظر إليها من حيث المكونات الغذائية على الترتيب الرباني كما ورد في الآية يمكن له أن ينظر بعين طبية إلى العلل الجسدية أو الخصاص الغذائي فيعدله بأسهل الطرق وأبسط المناهج.. ومن نظر إلى التوزيع الزماني والمكاني للمواد الخمس المذكورة يجد لها توقيتا مخصصا وهندسة وقتية مبرمجة تجمع بين حاجات الإنسان لها ومساعدة الطبيعة لكل مادة من المواد في وقتها وأوانها بدون قبلٍ ولا بَعد...

ومن نظر إلى التوجيه الرباني في التربية الفلاحية والاستقلال الغذائي للإنسان يجد أنوارا وأسرارا في كل حرف من حروف كل كلمة، ومن نظر إلى انوار كل منها وحللها حسب البحث المطلوب (وأن لكل نور سبعة انوار تخصصية) فإنه يقف فعلا على معنى قول الحكيم العليم: مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ..

... ومن طبيعة الإنسان السهو والغفلة والنسيان، فإن أخره سهو أو أبعدته غفلة أو جرفه نسيان لطبيعة الأصل وحقيقة التكوين في استعمال الطعام والتعامل مع الإطعام بما يجب، تدحرجت سلامته الصحية بتقهقر مكونات الطعام وعجزت مستقبلاتها في الجسد، فتنقص الفاعلية العضوية بنقصان المكونات الممدة لها، فيحصل الخلل.. وتنتج العلة، وينشأ المرض..

فإن رجع سلوك التعامل إلى سالف عهده رجعت معه الإمكانات ودبت الحياة من جديد ونشطت الأعضاء بعد تعافيها... وهذا ما يسمى الآن: العلاج أو الحماية بالنظام الغذائي السليم.. والموضوع أكبر مما يتصوره البعض، أو يحصره في مواد أو طريقة بعينها.. ولكنه يختلف حسب طبع الأشخاص وانتمائهم السلالي أو الفصيلي أو الجيني، وطبيعة حياتهم ومدى أنشطتهم ... ولو ان الموضوع عميق ودقيق ومتشعب، إلا انه على الأقل بدأت تعرف (من خلال بعض الباحثين الأشراف، أو المضطرين بالأمراض والأعراض) بعض الاجتهادات التي فتحت أعين الناس على الاعتناء بالنظام الغذائي الطبيعي.. ولو أن العوارض كثيرة ومتنوعة، ولكن الاهتمام ابتدأ العمل به على الأقل، وبدأ الوعي بحقائقه ونتائجها...

الإنسان خلق في أحسن تقويم، ومؤشرات هذا التقويم مرتبطة ببعضها موجهة بالهداية ومسندة بالعزيمة، بين مكونات الإنسان الذاتية والمركبات المتجانسة حوله كالهواء والماء والغذاء وبيئتهم الحاضنة، وبين هذه المركبات المزودة والمكونات الذاتية تناغم بمقاييس محددة ومؤهلات في الإنسان مركزة.. ومن حسن تقويم الإنسان أن اوجدت فيه يد القدرة مستقبلات طبيعية على شكل موازين تقيم الجودة والصلاحية والاستعملال النافع...

فإن تهور الإنسان في استعمال الموازين أفسدها، وفقدت معها دقتها، فأسرف أو أقتر، والتقويم وسط بينهما، وطبيعة الوسطية تنتقل إلى المواد بالطبيعة التسلسلية، فتفسد البيئة الحاضنة، ويظاف أو ينتقص إلى الغذاء والماء والهواء ما ليس منه، فتتغير موازين التقويم الإنساني، فيرتد على عقبه التقويمي إلى أسفل تصنيف فيه... وما يكون بحكيم عليم أن يخلق الإنسان في أحسن تقويم، أن يرده إليه ويدله عليه بعد سهوه أو غفلته أو نسيانه... قال تعالى: وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ ١ وَطُورِ سِينِينَ ٢ وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ ٣ لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ٤ ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ ٥ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ ٧ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٨..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire