1) المستوى الأول:

هو الذي خلقه الله لآدم عليه السلام، حين خلقة ولم يكن لا شيئا، وعلمه من كل شيء، وخلق منه زوجه، وأدخله الجنة.. قال تعالى: وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا.. وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ..

وللباحث الجاد في علم التغذية الربانية ان يتصور كيف تكون الجنة الآدمية هذه التي يوجد فيها كل شيء ينفع في كل شيء، بدون أن يزرع فيها أبونا آدم ولا يسقي ولا يصون ولا ينتظر وقتا للإثمار... ويأكل منها متى شاء وكيفما شاء وحيثما شاء.. (و هذه الجنة في الدنيا، وليست جنة الآخرة، وتلك مواصفاتها)..

قال بعض العلماء انها جنة الخلد في السماء وقال آخرون غير ذلك، وكل أدلى بدلوه، وكل على صواب إلا أن يذكر أنها جنة في غير الدنيا، لأن جنة الآخرة تعد للمتقين وللمؤمنين إعدادا حسب أعمالهم وأفعالهم في الدنيا، قال تعالى: سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ.. وقال تعالى: وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ... وعن الحسن رضي الله عنه: يقول الله تعالى يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم.. وثبتت أحاديث كثيرة تدل على الجزاء في الآخرة مقابل العمل في الدنيا وزيادة كرم الله في ذلك.. إذن انتهت ذريعة جنةٍ في غير الدنيا، وإن ثبت عن بعض الصحابة ما فهم كقوله تعالى: وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ.. فقوله تعالى اهبطوا: يحتمل ان يكون هبوط في المنزلة، من منزلة كرم العليم الحكيم إلى منزلة عفو وتوبة الكريم الرحيم، أو الهبوط من جنة الفطرة بكرم الله، إلى أرض العمل والكد بحكمة الله.. وإن كانت كلمة "ٱهۡبِطُواْ" لمن أحالها على الأنوار يجد انها انوار تشريف للمقاومة والتكليف، ومعناها:

الألف لها الامتثال، والهاء النفرة عن الضد، والباء سكون الروح في الذات سكون المحبة والرضا والقبول، والطاء للطهارة، والوار للموت في الحياة، والألف الأخير للامتثال بكل هذه الأنوار على ما يرضى الله...

أما إذا تأملنا أنوار السكون في الجنة فإننا نجد انها تؤصل لعلوم ومعارف عزيرة ودقيقة ما أحوج الإنسان إلى معرفتها واستخلاص أصول الهداية والإلهام في التغذية والحياة..

فقوله تعالى : وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا .. وانوار: كُلا: الكاف تدل على المعرفة بالله عز وجل، واللام لها العلم الكامل، والألف له الامتثال لأمر الله تعالى.. وهذا إنما يدل على سلوكٍ خلقه الله مع آدم عليه السلام مطابقا لفطرة الجنة التي أسكنه إياها، وهي إن شئت قلت تبين طبيعة الأكل، أو النمط الغذائي التي كانت في طوق آدم عليه السلام وزوجه..

فطبيعة نور الكاف تدل على المعرفة بالله عز وجل، التي تؤهل إلى الهداية في كل شيء، وتلك طبيعة الغذاء الرباني (وسوف نوضحه).. اما اللام فتدل على العلم الكامل ومنها قوله تعالى: وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا.. فكان آدم عليه السلام له منهج غذائي يليق بمعرفة الله عز وجل، وكان يعرف بما علمه الله كل ما ينفع وفيما ينفع.. وأما النور الثالث فله امتثال أمر الله تعالى، وكانت صيانة لنعم الجنة الآدمية من قوله تعالى: وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ..

إذن كان في أمر:وَكُلَا:ثلاثة انوار، هي كما ذكرت.. أما في قوله تعالى: رَغَدًا .. فهي طبيعة الغذاء الذي كان يحتاجه آدم عليه السلام للحياة في الجنة، وكان متوفرا بكرم الله وحكمته فيها، وهو مكون من أربع مكونات غذائية ثلاثة مادية محضة، والرابع سلوكي وعقدي وإيماني وهو الحامل لمزايا المواد الثلاثة المادية وهي كما يلي:

الراء لها حسن التجاوز، والأمر فيها يتعلق بالوقود والطاقة لكي تحفظ وظائف الأعضاء الباطنة، وتقوية الأعضاء الظاهرة، فتكون المكونات هي الدهو والكربوهدرات.. وقد يقوم الجسد بصناعته إذا توفرت الظروف...

الغين: ولها كمال الصورة الظاهرة.. والأمر بالتجديد المستمر للأنسجة، إذن يكون الكلام على معادن البناء كالبروتينات والماء وبعض المعادن..

الدال: ولها الطهارة.. والأمر يتعلق بالمحافظة والسير السليم للجسم، فتكون المكونات هي الفيتامينات والمعادن والمغذيات الدقيقة

والألف ولها امتثال أمر الله، ويتعلق بطاقة من نوع آخر، هي التي نفتقر إلى معرفتها في هذا الزمن، وهي السلوك الذي لا بد أن يصحب الغذاء فيكسبه روحا كما ان للجسد روح.. وذلك امتثال أمر الله تعالى إذا قوي الجسد وجاء وقت القرار..

والفقير فتحت بابا لا أجرم أن الصواب كله، ولكن جرأة البحث كان لا بد أن تطرق باب التخصص.. فمن بحث في هذه المكونات الغذائية بهذه الطريقة فإنه (لا شك) يفتح له بريق من الأمل للنظر إلى حكمة الله العزيز العليم، وربما لا أستبعد أن هذه المواد الغذائية ومكوناتها هي التي ذكرت في كتاب الله في ذكر طعام الجنة (وسوف نأتي على ذلك بحول الله تعالى)..

أود أن أختم بمعلومة لها أصل في كتاب الله تعالى، وهي تجمع خلاصة انوار حروف: كلا منها رغدا.. فكلمة: كلا.. تدل على الطريقة التي كان يأكل بها أبونا آدم، وأذكرها لمكانتها من العلم والحكمة والدين، وقد ذكرنا النور سابقا، أما سلوكها فهو قريب من الوصف الذي وصفه القرآن وهو كما يلي:

الأكل الآدمي كان مصونا بأنوار: معرفة الله عز وجل وبالنور الكامل وبامتثال امر الله تعالى.. فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون على الطريقة التي نعرفها، والتي يمكن ان يدخلها الإسراف او الإقتار أو الشح أو التبذير أو التهور أو سوء الاختيار.. أو الحرام او المكروه... فينجم عن كل سلوك دني علة أو عطب أو مرض، وأمر الله واضح لآدم عليه السلام من قوله تعالى: وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا.. أما أمر الله لأهل الأرض بعد هبوط آدم فكان واضحا كقوله تعالى: كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ.. وقوله تعالى: وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ.. وقوله تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ... فهذه الشروط فرضت كأنوار وقائية لآدم وبنيه في الأرض ولم تكن لآدم في جنة الفطرة..

ومن طرح هذه الفرضيات يمكن له أن يتصور حكمة الله في غذاء (أو أكل) آدم عليه السلام.. لأنه لا بد ان تكون المواد غير المواد التي هي بين أيدينا الآن، لأنه لو كانت، لكانت الطريقة كما نحن عليها.. إذن كانت طريقة تليق بكرم الله لآدم في الجنة.. فربما كانت لأبينا آدم طريقة (تعلمها من لدم حكيم عليم) بحيث يحصل على الفوائد من المكونات المغذية دون الحاجة إلى المواد نفسها (مثلا)، وهذا يقتصيه معنى قوله تعالى: وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ.. وهذا يدل على أنه كانت أشجار مسموحة لآدم عليه السلام وأخرى ممنوعة..

أما صفة الممنوعة فهي ما أخبر القرآن بخصائصا في قوله تعالى: فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ.. وبصرف النظر عما قيل في التفاسير القديمة، وكان مشروط أن تفسر النصوص على مقاس ما يفهم الناس (وهذه السنة)..

اما النظرة العلمية للنص، هو الطعام الذي كان محرما على أبينا آدم هو الذي فيه زيادة على المكونات حاملاتها، كالألياف الغذائية مثلا أو المعادن الزائدة أو الماء أو الأنزيمات... فلما أكل أبونا آدم من هذه الأطعمة الكاملة، كان لا بد أن يسري في مساريها من المعدة والأمعاء، فيحصل امتصاص من المكونات، اما الباقي فيجب فيجب أن يلفظ خارج الجسد.. فلا بد أن يكون له مخرج...

ومن تعجب من هذا الطرح فليعجب من طريقة غذاء الجنين في بطن أمه، فإن له طريقة يقف الطب أمامها وقوف المتحير الولهان... كيف يقيم الغشاء الواقي حاجيات الجنين من المكونات الغذائية، وكيف يمتصها من طعام الأم، وعند العوز يظهرها صراحة على طلب الأم فتسعى إليها جاهدة وكأنها المعنية وليس الجنين بوسائله الربانية.. وهو لا يدرك شيء ولا يفهم شيء ولا يعلم شيء...

فكيف يحجر ذلك على أبينا آدم وقد وهب أنوار المعرفة بالله والعلم الكامل وامتثال أمر الله، في جنة أعدها الله له... .

فمن فهم هذا يفهم قول الرسول الكريم عندما نهى الصحابة عن مواصلة الصيام (مواصلة الليل بالنهار) قال أحدهم إنك تواصل قال صلى الله عليه وسلم: لست كأحد منكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقين... ومن فهم هذا يفهم معه كيف سقى صلى الله عليه وسلم الجيش بالمدد من الماء من بين أصبعيه، وكيف أشبع أهل الصفة ومعهم آخرون بقليل من اللبن، وكثير من كراماته صلى الله عليه وسلم التي لا تخفى على أحد...

فالمقصود من هذا الذكر هي وضع لبنات للبحث الرباني إجابات على أسئلة كثيرة أرقت العالم المادي في الفيزياء والكيمياء والطب، وغير ذلك من العلوم التي لا يمكن أن تجد إجابات من ذاتها منفردة.. أو خطوط عريضة للسعي في البحث العلمي فيها، والتي بدون شك أن يجد العلم ما ينتظره، من أجوبة تفيد الإنسان في الدنيا والدين.. والتي لا توجد إلا في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل، وفي سنة الرسول الكريم الذي ما أرسله الله إلا رحمة للعالمين...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire