1) الطب الرباني:

الطب الرباني كما تدل عليه التسمية يتكون من كلمتين: طب، وربانية فيه... وقد سبق أن ذكرنا سابقا أن كلمة "الطب" لم ترد في كتاب الله تعالى، ولكنها وردت بمعان أخر لها دلالات تلزمها كمرض وشفاء (وقد سبقت الإشارة إليهما وستأتي)، ولكن الكلمة وردت في السنة المطهرة (كما وردت في قصة سحر النبي الكريم " مطبوب"، وسترجع إلى الباب لاحقا)..

ووردت كلمة"سقم" من قوله تعالى على لسان إبراهيم: فَنَظَرَ نَظۡرَةٗ فِي ٱلنُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ.. وقوله تعالى في حق نبيه يونس: فَنَبَذۡنَٰهُ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٞ..

وكلمة "سقيم" في قاموس المعاني تدل على من مرض وطال مرضه.. أما على الأنوار فلها معنى أدق وذلك أن الكلمة تدل بترتيب حروفها (بإيجاز) على: عدم التحكم في خفض جناح الذل الذي تعطلت منه البصيرة ولم يعد يراقب فيه حقيقة الخوف من الله ثم سقط منه الانتفاع الجزئي والكلي (وهذه معاني في غاية الدقة بالنسبة للتشخيص الطبي)...

ونجد كلمة: "ضر" قال تعالى: فَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلۡنَٰهُنِعۡمَةٗ مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمِۢ.. وهنا يظهر الفرق بين الكلمات الواردة في كتاب الله تعالى، فالمرض هو ما يكون سببه الإنسان بدليل قوله تعالى: وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ.. أما الضرّ فهو مرتبط باسمه تعالى: الضار، وكذلك باسمه تعالى: النافع.. فهو سبحانه تعالى الضار والنافع، ومعنى ذلك أنه يكون سره سبحانه في ضره فيكون محض نفع، وقد يكون استدراجه في ظاهر نفعه فيكون عين الضر قال تعالى: قُلۡفَمَن يَمۡلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔا إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ ضَرًّا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡنَفۡعَۢاۚ.. فهذه سلسلة من صفات الله العليا منها الضار والنافع ومنها القابض والباسط والرافع والخافظ... ومن لم تكن له معرفة بالله تعالى ويقين به فإنه لن يتخطى عتبة الإيمان التي من خواتم أركانها: الإيمان بالقدر خيره وشره..

هذا للجواب على الفرق بين مختلف أنواع الأضرار والأمراض التي تؤرق الناس في فهمها وتحرج الوعاض في تفسيرها، ولكي يفهم عن المرض الذي يكون جوابا لفعل الإنسان وسلوكه (وهو في الواقع ناقوس خطر عضوي أو مؤشر إخبار نفسي يبلغ الإنسان أنه مرق عن المنهج الصحي الذي رسمته القدرة...) فإن كان مرضا وجب عنده الوقوف والمراجعة والرجوع إلى المنهج السليم والصراط المستقيم، ولا ضير أن يستعان عليه بما أمكن من الأدوية المباحة والمتاحة... أما إن كان ضرّا، فيلزم معه زيادة في اليقين وتسليما لمن هو بكل شيء عليم حتى ينسخ الضر نفعا والمنع عطاء والامتحان منحا وإسداء ... .

اما كلمة "رباني" أو "ربانيون" (كما وردت في كتاب الله) فمرجع الطب فيها مسند إلى القدرة الربانية، والكلمة قرآنية محضة، وأصلها سرياني وليست عربية، وقد سبق الكلام عنها في اللغة السريانية (في أنوار الحروف)، ومعناها فهي مكونة من ثلاث كلمات وهي كما يلي:

"ربا": ومعناها الخير الساكن في الظاهر كما في الباطن، و الذي لا يدرك إلا بالتذلل للعزيز الذي لا عز إلا عزه، فيعز العبد بالله عزا لا يذل لغيره أبدا.. وكلمة"ني": تدل على أن العبد يدرك هذا الخير و هذا السر فيلبسه حياء و هيبة و وقارا.. و: يون: تعني أن هذا العلم متفاوت حسب المقامات و متعلق بالمكونات والمخلوقات، و أصله من النور الأصلي الساكن في الذات المنبثق منها..

ومن تأمل هذه المعاني يفهم كثيرا عما غاب عن فيزيائيو الكموم وأطباء الكموم، لكي لا نقول أسرار علم النفس الحقيقية، أو حقيقة تأثير الكائنات بالمكونات..

وفي كلمة واحدة: هو العلم الذي يعلمه الله للمتقين بدون تعلم... ومن صعب عليه هذا الفهم، أو شرب هذه المعنى فليتأمل علم آدم عليه السلام قال تعالى: وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا.. ووحي الله للأنبياء والمرسلين (وهو علم رباني محض)، وكذلك هبة الله وعلمه للأولياء الصالحين ومثاله في خضر موسى عليه السلام من قوله تعالى: فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا...

فمن فهم هذا، يفهم معه أن كل العلوم أصلها رباني بما فيها الطب ولا يخلو منها أي علم يتعلق بنظام الحياة، كالفلاحة والتجارة والصناعة والسياسة... (وهذا الذي لم يتوفق علماء المسلمين إلى استنباطه واستصاغته)، والمدد الرباني يأتي في كل علم عند حاجة الناس إليه، إلا أنه تكون عليه القياسات في الأمور التي يصدر فيها نص كتاب مقدس أو أمر من نبي مرسل أو توجيه من ولي ملهم، وملخص كل هذا بين دفتي كتاب الله وفي سنة رسول الله.. علم ذلك من علمه وجهله من جهله.. إلا أن المقصد من العلم الرباني لا يجب أن يحيد عن مساره في النفع والإنتفاع للعباد.. فإذا اختلسته أيادي الحيل وتلقفته مناهج الشطن، خرج عن مساره العلمي وانقلب نفعه على الناس ضررا ونوره ظلمات وأكدارا...

خلاصة القول في الطب: أن الطب الرباني هو أصل جميع أنواع الطب النافع، وتأصل منه الطب القرآني والهدي النبوي في الطب، ولا نستثني كل إيحاء رباني في الطب رشفت منه النفوس الطيبة المهتمة بصحة الناس..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire