الأنوار بين الحاكم و المحكوم:

أمة العلم و العمل بعيدة كل البعد عن القيل و القال و كثرة السؤال قال صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسألتهم واختلافهم على أنبيائهم).. و إنما يستمد حال الآخرة من أحوال الدنيا، (فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ)..

فإذا وجدت من يرد اللوم كله على الحكام أو النظام فاشهد له بجهل، و إذا وجدت من يرد اللوم على غيره فذلك من قلة نظره إلى نفسه، فما الحاكم إلا حصاد للمحكوم عليه، فإن كان المحكوم على نور من ربه وكّل الله له حاكما يعينه عليه، و إن كان مفرطا سلط عليه حاكما يفضحه بين يديه، وقد ورد في الأثر: ( ما شاعت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم البلاء و الغلاء و الحكام الجور)، وقد ورد عن الرسول الكريم كما يرويه الطبراني: ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر... ويقول صاحب الحكم: اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك.. واللبيب يفهم ما آل إليه أمر الأمة من خلاف واختلاف وتكاثر وتكابر...

ألم تسمع قول العليم الحكيم (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ ٣٣).. نزلت الآية في أهل مكة كما هو معلوم، و الآية خرجت من مقام البسط و هي ناطقة بنعم الله الكريم و ذلك إكرام بوارد رفع العذاب على عباده الصالحين..

قال القشيري: وما كان الله ليعذِّبَ أسلافَهم وأنت في أصلابهم، وليس يعذبهم اليوم وأنت فيما بينهم إجلالاً لقَدْرِك، وإكراماً لمحلِّك، وإذا خرجتَ من بينهم فلا يعذبهم وفيهم خدمك الذين يستغفرون، فالآية تجل على تشريف قَدْر الرسول صلى الله عليه وسلم..

و قال سيدي أحمد بنعجيبة: قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ذهب الأمان الواحد وبقي الآخر، والمقصود من الآية: بيان ما كان الموجب لإمهاله لهم والتوقف على إجابة دعائهم، وهو وجوده صلى الله عليه وسلم أو من يستغفر فيهم..

و قال ابن عربي: (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ) لأن العذاب صورة الغضب وأثره، فلا يكون إلا من غضب النبي أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة، والنبي عليه السلام كان صورة الرحمة لقوله تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ) ولهذا إذ كسروا رباعيته قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام، وقال: (رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا)، فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب، وكذا وجود الاستغفار، فإنّ السبب الأول للعذاب لما كان وجود الذنب، والاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته بل يوجب زواله فلا يتسبب لغضب الله، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون.../

و من دقق النظر بالأنوار في الآية الكريمة ينكشف له المستور و يظهر له النور فضلا من الرب الكريم الغفور..

(وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ)..

فوارد رفع العذاب واحد، و إن ظهر هنا ذو لونين فلعظمة أنوار النبي المختار رحمة من الملك الغفار، و إن شئت قلت وارد رفع العذاب لفئتين متباينتين استحق كل منهما درء العذاب بموجب نوراني..

أما الفئة الأولى فهم أهل الحقيقة أما الثانية فهم أهل الشريعة..

فجاءت في أهل الحقيقة: (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ)، و في أهل الشريعة: (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ).. جاءت اللام والياء زائدة في وارد درء العذاب فيمن فيهم رسول الله (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ)، فوجودية النبي، فيض من الكريم العلي، ثابتة ببشريته في صحبه، و بنوره و سره في معيته.. فالمعية ثابتة بدليل قوله تعالى: (مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ)، ثابتة ببشريته في وقت نبوته، و ثابتة بالتحقق في أنواره و تلك حقيقة سنته، و ثابتة ضمنيا لمن لم تكن لهم طاقة ببواطن الأمور و التجائهم إلى الملك الرب الغفور (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ)..

فدرء العذاب تخصص عند أهل الحقيقة بثبوت العلم الكامل و هو ما تدل عليه اللام، و الخوف التام من الله عز و جل الذي تدل عليه الياء، لأنه لا يخاف الله إلا من عرف الله (لِـيُـعَذِّبَهُمْ)، و أما أهل الشريعة و إن أنكروا الحقيقة بظواهرهم فقد أقرتها بواطنهم، و تمسكهم بالاستغفار هو وارد من الملك الغفار و هو نور من أنوار النبي المختار صلى الله عليه وسلم.. و درء العذاب هنا تميز بالميم و هي من حروف الآدمية و نورها الذكورية (مُـعَذِّبَهُمْ)، و الاستغفار نور تزول به الأكدار و تنمحي به الأغيار و به يكون النمو و الزيادة و البركة في هذه الدار و في تلك الدار، ألم تسمع قوله تعالى: (فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا ١١ وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا ١٢ مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا ١٣ وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا ١٤)..

فإذا كانت علوم الحقيقة فرض كفاية لو علمها البعض سقطت عن الباقي، فعلوم الشريعة هي فرض عين، لا يعذر أحد بإهمالها أو تركها مع القدرة على القيام بها، و لذلك ضرب بينهم بسور ظاهره فيه شرائع الدين وباطنه فيه أسرار اليقين، فكان شرط على الطرفين وجب التزام كل منهما بما فيه الحق أقامه، فأهل الشريعة لا يتطاولون على ما ليس لهم به علم (وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ)، و أهل الحقيقة لا يظهرون في الوقت ما ليس منه (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ)، فإن كان كذلك، فدرء العذاب وجب في ذلك، (مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا)..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire