ثانيا: للسحر آليات تنفذ به وهي على مستويين:

1) النوع الأول منها تهيئي أو تخيلي، وهو ما يميل إليه كثير من علماء الظاهر بناء على قوله تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمۡ وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَاتَسۡعَىٰ.. والمقصود منه أن المرء يرى ما ليس واقعا ويسمع ما ليس متكلما ويلمس ما ليس موجودا... وهذا ربما له من الخطورة ما ليس لغيره، وليتصور متخصصوا وظائف الأعضاء ماذا يحصل لعقل المريض وفكره وكيف يتعامل بصره وسمعه ولمسه وشمه... وقل مع ذلك سائر حواسه الظاهرة والباطنة..

2) السحر يضر في الأعضاء الظاهرة والباطنة، ويسبب أمراضا وأعراضا للمريض قد تكون فكرية أو عقلية كالصرع أو البله أو الحمق، أو على مستوى الأعضاء ابتداء من الحمى إلى أمراض الكبد والقلب وكل ما يتصوره الإنسان... حتى سقوط الشعر أو الإكزما أو التهييج الجنسي أو الفتور منه وأكثر من ذلك بكثير سنتطرق إليه إن كان الوقت موفقا...

3) السحر له آليات تنفذه: وهي الجن والشياطين، وله أرضية يثمر فيها: وهي بعد المسحور عن الشرائع التي فرضها الله عليه، فإن من التزم بها (الطهارة والصلاة والصدقة والذكر...) أزالت عنه الجزء الكبير منها، وإلا انشرت فيه كالبكتيريا وعششت فيه كالفيروسات..

أما منفذوه فهم الشياطين عادة ويعينهم في ذلك الجن الكافر طوعا وأحيانا الجن المسلم كرها، وأود أن أوضح الأمر في تصنيف هذه المخلوقات التي وقع حولها لغط كبير..

"الجن" هو الاسم الأصل أو العام لهذه المخلوقات، وهي في الواقع صفة له، وهي التخفي عن أعين الناس.. يقال جَنّ الليل إذا أرخى سدوله وأظلم، ويقال الجنين في بطن أمه وهو المخفي عن الأعين.. ويسمى كذلك "الجان" (كما ورد في القرآن الكريم)..

ويختلف الجن عن الإنس في التكوين الخلقي أو بنية التكوين، قال تعالى: خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ وَخَلَقَ ٱلۡجَآنَّ مِنمَّارِجٖ مِّن نَّارٖ.. فالإنسان مخلوق من طين (ترابي) مضاف إليه ماء بعناية وقدر(مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ)، والجن مخلوق من عنصرين مختلفين هي النار والهواء بعناية ومقدار(مِنمَّارِجٖ مِّن نَّار)، والمعلوم أن هذه المواد الأربعة تسمى أصول الطبائع وهي النار والهواء والتراب والماء، وهي بهذا الترتيب قوة واعتبارا..

وقد تعامل الحكماء قديما مع هذه الطبائع في الحكمة والطب كما في السحر والضرر، ومن فهم أصل تكوينها وأسرار تركيبها ارتقى في سلالم الصناعة والتحويل والمعالجة والتأثير (وهذا في العالم المادي فقط) اما المعنوي فقد أخفى العليم الحكيم أسرارا لا تفتح إلا لأهلها وأنوارا لا تشرق في غير مواطنها..

فإبليس اللعين أصله من الجن، وعالم مخلوقات الجن عمرت الأرض قبل خلق آدم بزمن طويل (والأحاديث توضح هذا) قال تعالى: وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِ .. فوصف: كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ.. مدح لخلقة الجن، لأن الحق سبحانه سلخ إبليس من النسب الجني لما فسق عن أمر ربه، وهذا يدلنا على تكليف الجن كالإنس تماما، فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون واللادينيون تماما كالإنس وذلك دليل قوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ..

والمفاذ من هذا الكلام أن عالم الجن شيء وعالم الأباليس شيء آخر، وهم الشياطين بالفطرة والأصل، ومعنى ذلك أن خلقتهم لا تسمح لهم بالرجوع عما هم فيه، وسلطتهم العليا "إبليس" يمسك بزمام أمورهم، وهم خدمه وجنده، وهم يعلمون تماما العلم أن علمهم كله في غضب الله ومصيرهم كلهم إلى جهنم وبئس المصير...

أما الجن فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون كما سبقت الإشارة إليه، أما المؤمنون الأتقياء الذين لهم طريق معبّد وقانون متبع فناذرا ما يقعون في حبال الشيطان.. أم ضعيفوا الإيمان أو غير المؤمنين فناذرا ما يفلتون من حباله ومكائده... وكلما ألحق بحباله أحد من الجن (أو الإنس) وكان يشتغل بمحض إرادته (أو بقهر شيطاني) يسمى شيطانا (وإن كان ملحقا لسلك الشياطين).. ويهوى الجن (أو الإنس) في مهاوي الشطن بمدى قبوله للظلمات وعهوده عليها وتنفيذه لها، وهي دركات في الشرك والكفر مصحوبة بانواع الضرر للخلق والحرث والنسل..

ويبقى طريق الشيطان في مناقضة الرحمة والحق ومكارم الأخلاق حتى لا يُبقي على أي خلق سَنيّ إلا عارضه، ولا على كل خلق دني إلا فعله، فيزيد قدره انحطاطا إلى أن يصل إلى أسفل الدركات، فيخاطب بأسفه اللغات: إن يرد المزيد، فلا نصيب له في رحمة القوي الشديد... فإن قبلها وشهد على نفسه ألا نصيب له في الرحمة الربانية، وأنه يبيعها مقابل نصيبه في الدنيا الفانية، فإنه يطبع "شيطانا" ويكون "ساحرا" وخادما للحر ومنفذا له وداعيا إليه... وذلك معنى قوله تعالى: وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚوَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِوَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ...

ولعل بعض الناس الطيبين ، الذين اعتادوا المطعم المضمون والملبس النظيف يستبعدون ما أقوله، أو الذين اعتادوا الحياة المادية المحضة ، فهم ينتقلون بين شهوة في الأكل، وشكل في الملبس، وكلام مسلّ في القول، ومبلغ زائد في الدخل، ولا يحملون همّ فرض ولا واجب ولا يكترثون لحرام أو ممنوع إلا فيما يمس مكتسباتهم، فمن حقهم أن يقولوا كما قال الأولون: إن هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر!!!..

أما من كان له اطلاع متوسط في أمور الحياة الحالية، فإنه يجد أن هذه البروتوكولات الشيطانية خرجت إلى عالم الإنس، فبها يعملون، وعليها يعتمدون، من دخل معهم كانت له منهم العناية، ومن سار معهم كانت له منهم الرعاية، ومن نفر منهم صبّوا عليه غضبهم، وأقصوه من رحاب ملاعبهم.. بها تحكّموا في السياسات والرياسات والتجارات.. والديانات... (فافهم أو لا تفهم، فهذا ما عليه الحال)... ومن سبق له بعض الاطلاع على العوالم الشيطانية وتركيباتها لا يراها بعيدة على بعض النظم العسكرية أو الاستخباراتية لبعض الدول التي تعد عظمى أو كبرى ...

والله رؤوف بعباده، رحيم بهم، وإن بعدوا.. فهو دليلهم، وإن مرضوا.. فهو طبيبهم، وإن رجعوا إليه فهو حبيبهم... قال عز ربي وجل: إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا .. ومن قرأ في ثنايا الآية يجد أن للشيطان كيد شديد على أهله وأوليائه ومن هم تحت إمرته وسلطته، فهو يبرم عليهم الشطن من حيث لا يعلمون، ويكيد بهم المكائد حتى لا يقدرون على حلها وفكها والتحرر منها، والحق سبحانه وتعالى يبين من خلال معنى الآية: أنكم أيها الواقعون وأيها المبتلون بهذه المكائد والشطن تيقنوا أن كيد الشيطان ضعيف إذا علمتم وتيقنتم أن لكم رب قوي شديد متين ورحيم.. فهو سبحانه وتعالى يقول: إِنَّهُمۡ يَكِيدُونَ كَيۡدٗا وَأَكِيدُ كَيۡدٗا.. وهو سبحانه وتعالى يقول: وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡشَيۡ‍ًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ... فصبر جميل للخروج إلى بر الأمان وعناية الرحمن، خير من الصبر على تنفيذ أوامر الشيطان والمذلة والهوان.. فاختر يا مليح وإياك ان تختار القبيح..

وأحكي واقعة لعلها تنير طريقا أو مسلكا لحيارى من إخواننا من الجن والإنس، الواقعين بين نيران النفس الأمارة وقيود وحبال جيوش الشيطان الجرارة، ذلك أن رجلا ممن أقامهم الله في هذه الأبواب الربانية (وهم موجودون ولا ينتقصون في زمن ولا مكان... ووالله الذي لا إله إلا هو لا أقول إلا ما رأته عيني وسمعته أذني أو روي لي ممن لا يشك في صدقه..) له سلطة المراقبة في الأعمال الخفية المتعلقة بين الجن والإنس... فوجد خادما من الجن لبعض الأعمال الإنسية له هالة بيضاء ومظهر كأنه ولي أو ملَك، شكّ الرجل المتخصص في طبيعته وأقسم عليه وإذا هو يرجع إلى طبيعته العادية، ذلك انه جن مارد وقع في حبال الشيطان وهو من علم الدين بمكان... فقال له الرجل المكلف: بالله عليك أيرضيك ما أنت فيه وأنت تعلم ما تعلم؟؟ فأجاب الجني: هذا واقع لزمني ولا مفر لي منه، فاقض ما أنت قاض وأرحني.. قال الرجل: الله يقضي بالحق وهو أرحم الراحمين.. وهل أنت نادم؟؟.. قال الجني: وبم ينفع الندم؟؟.. قال الرجل: لعلك عظمت الذنب فوق عظمة الله.. فذهل الجني وكأنه أفاق من سبات أو حل من عقال.. ثم غمره اليأس ثانية وقال لا لا لا... قال الرجل: هل مررت في العهد الثالث؟ تنهد الجني عميقا وطأطأ رأسه إلى الأمام في يأس شديد.. فتلى الرجل قوله تعالى: قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْمِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ .. فترنح الجني بين الشك واليقين ولا تزال حبال الريب حوله، فقال له الرجل: هل وصلت إلى العهد الثالث؟؟ فنظر الجني بيأس وخيبة وقال: لعلك لا تعرف العهد الثالث!! فقال الرجل أعرف فقط قوله تعالى: إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا .. فدبت حياة من جديد في محيى الجني.. وكأنه غريق في الرمق الأخير وظهر أمل ولا يعرف كيف يمسك به.. فقال له الرجل: هل أنت مستعد؟؟ للرجوع إلى مولاك.. لله أفرح بتوبة عبده من الضّال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد... .

وكان الرجل قد سيّج المكان من كيد الشيطان، وفُتح للمخلوق الضال باب في ضل ولي صالح، ووضع في خلوة ووحدة وقيل له: أنت وربك!!!... وبكى الرجل بكاء شديدا، وبكى من كان حوله من المخلوقين.. وتلك رحمة من رب العالمين..

أقول هذا وأقول معه الحكمة القائلة: لاَ يَعْظُمُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ عَظَمَةً تَصُدُّكَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى.. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ اسْتَصْغَرَ فِى جَنْبِ كَرَمِهِ ذَنْبَهُ.. وقد ورد في الحديث الرباني: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ...

وفي هذا كفاية لمن غلبت عليه شقوته ووقع في حبال الطاغوت وهو يكره ذلك في قلبه، أو هبت عليه نسائم الندم في حين من الأحيان، فلينتعش بتلك النسائم فهي من عبق الرحمن، وليسند ظهره بالأمل في الله والاستعانة به والتوكل عليه، وإن ضغطت على جوانحه الأواني فإن القلب يبقى محررا للمعاني.. وليتوكل على الله.. وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِفَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖقَدۡرٗا..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire