ثالثا: انواع الجن والشياطين:

الجن أنواع وأشكال وطبائع تختلف باختلاف الخلقة والدين والانتماء تماما كخلق الإنس ومكوناتهم، وإن الإنس قد زانته طبيعته الطينية في الشكل وجمال الصورة وقوام البنية، فإن خلقة الجن قد زادته طبيعته النارية في القوة والصلابة وسرعة التحرك والتحرر من الجاذبية...

أما من حيث خلقة الجن فهم أكثر بكثير من خلقة الإنس، وأجناسهم مختلفة كأن تجمع بين خلقة الإنس وخلقة جميع الحيوان والطيور والزواحف والحيتان، وكل جنس له طبع عام يتعايش به مع الغير وآخر خاص يتحاكم به في جنسه، ومنهم من له طبيعة القرب من الناس بالنفع أو بالضررحسب طبعه وأصله وجنسه، ومنهم من يميل إلى الوحدة ويسكن إلى العزلة... وتجمعهم قوانين وأحكام عامة ينفذها كبار الجن وصالحوهم، ومن يأخذون بنواصيهم من العوالم العلوية، وكذلك من أسندت له ولاية ذلك من صُلاح الإنس.. وكل ذلك مبني على قواعد في الأحكام الشرعية والعرفية، والكل مطلوب باتباعها وممنوع عليه خلافها إلا من طغى وبغى واتبع الهوى، فهو كالمجرم في عالم الإنس، يفر من القضاء ويتعزز بقوته أو يحتمي بحميته، وإن وقع في يد القضاء تطبق عليه الأحكام...

والجن يتبع طبع أصله في اللون والبنية والخلقة، وكل فصيل له ميزة يتميز بها على باقي الأجناس وخصوصية تقوم بها حياته وترتكز عليها توجهاته المادية والمعنوية.. فمنهم من يقترب طبعه من الإنس بشكل من الأشكال فتكون معيشته أقرب من حياة الناس، وربما يكون لهم تأثير سلبي عليهم أو إيجابي لهم حسب ما تقتضيه المصلحة في النفع أو يحكم به القضاء في العلة والمرض (ولو أني أطوي الكلام طيا، فإني أبسط فيه ما استطعت، لأن من عرف هذا فتحت له أبواب المعرفة في عالم المواهب والمكاسب وكذلك في أبواب العلاج الذي يتعلق بما نحن بصدده).. وهذا يدخل فيه كل انواع الجن وأصنافهم بصرف النظر عن دينه أو معتقده أو شكله ولونه أو طبيعته ما عدا العالم الشيطاني.. فإنه شر كله ضرر كله، حيث ما حل، فهو كالفيروس أو الجرثوم بالنسبة للأبدال أو الكوارث بالنسبة للأوطان..

العالم الشيطاني يمثل العالم الظلماني كما يمثل أهل الخير والصلّاح من الجن والإنس العالم النوراني، وبينهما عالم يساق بهواه ويتبع مبتغاه، فإن انحاز إلى عالم الظلام تقوت به الظلمات، وإن انحاز إلى عالم الأنوار أشرق فيها على قدر همته وعلو قدره.. وجيش النور وجيش الظلمة في صراع على الدوام، كل منهما يعمل على اتساع رقعته، وتحصين منطقته، ولذلك كان العمل الصالح مطلبا، والحث عليه واجبا والحرص عليه مكسبا، والتزام الجماعة، فهي الحق حيث كان، (وإن كنت وحدك.. فالمقصود بالجماعة ما كانت عليه الجماعة الحقة) والعض عليها بالنواجد، وإن قل المعين والمساند، وإن جار الحاقد والمعاند.. فشوكة في خاصرة جند الظلام عسى أن تنير مسلكا يهدي إلى الجادة والصواب..

أود أن أختم بتصنيف أخير للأجناس، فالجن العادي هم مخلوقا ت كالإنس، كل حسب دينه وجنسه وطبعه، يأكلون ويشربون ويتناسلون، وهنا فوقهم جنس أقوى وهم العفاريت، وهم أطول عمرا وأقوى بنية وأبعد نظرا (وفيهم المؤمن وغيره) ويقابله من العالم الشيطاني الماردون أو المتمردون، وكل من العفاريت أو المردة لهم القدرة على خرق العادات والطبائع المادية في الخير أو الشر حسب طبعهم، ومنه ما جاء ذكره في كتاب الله من قصة سليمان بن داود عليهما السلام مع عرش بلقيس من قوله تعالى: قَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ (وكان لنبي الله سليمان جنوده من الجن والإنس على طاولة التنفيذ).. قَالَ عِفۡرِيتٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ(هو أول من نطق بطبيعة القوة والسرعة والتنفيذ).. أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ (وكان مجلس نبي الله يبدأ في الصباح وينتهي في العصر، فقال له آتيك به قبل أن ينتهي المجلس ).. وَإِنِّي عَلَيۡهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٞ (قوي قادر على حمله، ومعناه أن هناك من العفاريت من لا يقدر على ذلك، وأمين عليه ولا أخفي منه شيئا لأن كل العفاريت ليسوا كذلك).. (وبدأ النبي الملك ينتظر هل هناك من يستطيع فعل أحسن من ذلك).. قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ (وهو وزيره من الإنس، وكان له شرف علم من الكتاب) أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ (ارتداد الطرف هي وحدة قياسية في الحكمة الربانية، وهي عندما تحرك العين إلى طرف وتلتقط أول صورة منه، فإذا كانت الصورة تنتقل مع الضوء ففي النظر إرسال واستقبال فيكو ن بضعف سرعة الضوء، والآية تقول "قبل أن يرتد" ومعناها قبل ذلك، يعني قبل ضعف سرعة الضوء فعدها يا صاحب النسبية.. ومن جهة أخرى فعرش بلقيس يلزمه حساب الكتلة والثقالة والجاذبية... وهذه عمليات تقف دونها حسابات الفيزيائيين!) فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ (قضي الأمر في نقله بكل أمن وأمان) قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي (أن هذه عملية علمية محضة ولكن الأمر فيها مسنود إلى فضل الله وحده وليس إلى حدة الذكاء أو قوة الفكر كما يعتبر علماء المادة) لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ (والشكر يكون على النعم وللمنعم، فكيف يكون الكفر بها؟، وهذا من علوم القوم وفقه السلوك ومعارج الإحسان..) وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ .. (غني عن شكر الشاكرين كريم بمن غفل عن الشكر، فإن عاد قبله وأكرمه)...

ذكرت هذا ليُعلم أن القوة لا تحملها آليات منفردة ولا ترتكز على تقنيان مفبركة، ولكن هناك قوات من القَوي المتين وهبات من العزيز العليم ونفحات من العليم الحكيم، إن افتُقدت فقدت معها القوة جوهرها وكانت طغيانا، وجرت في أذيالها خزيا ثم ذلا وهوانا... وقد دل الأثر الشريف على ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.. وإن كانت القوة محمودة لقوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان...

أما القوة المطلوبة فهي قوة الإيمان مصحوبة بقوة الإتقان، فإن ارتقى فيها العبد فإنما يرتقي في أعلى سلالم الإحسان، فإن كان السائر فيها إنسا احتمى بسلوكه من شر الإنس والجان، وإن كان جنا كانت له حصنا حصينا من مكائد الشيطان، وهذا أول مبادئ العلاج وفاتحة أبوابه، أو إن شئت قلت أول المضادات الشيطانية أو التسلطات الجنية.. فأول ما ينظر tdi هو تقويم السلوك...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire