طعام الإنسان من الآيات الكونية:

من الأدب الحقيقي مع الله، ومن الإنصاف للنفس، أن ينظر الإنسان إلى طعامه الذي يقوم به صلبه وتنمو به مكوناته وتقوى به قدراته.. ومن أمعن فيه النظر من حيث علاقته المزدوجة في تمييزه بين الأصناف عموديا في الاحتفاظ بخصائصه، ومن حيث علاقته بالإنسان أفقيا ومدى دقة وهدف كائناته ومكوناته... فإنه يجد يحورا من العلم متناسقة متكاملة متناغمة، وبرمجة ربانية في الدقة والحكمة متناهية.. لا يسع العاقل أمامها إلا أن يسير معها باحترام عمودية الأصل الخلقي فيها والاهتمام بأفقية النفع منها..

ومن دقق الإمعان في أقل مكونات الطعام وأبسط سياسات الإطعام يجدها تفوق طوق البشر، فكيف بأعلاها وأخفاها، وكيف بما لم يعلم منها؟؟

من تأمل كتاب الله في هذا المنحى يجد علامات عليه التوجه بها، ودلالات يجب الاعتماد عليها كي يصح سيره ويثمر سره وتتضح له المعالم وتنور له العوالم، كقوله تعالى لحبيبه المصطفى: قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ ...

فالإطعام من اختصاص فاطر السماوات والأرض، وهو موقوف على الطعام، فأصله ونفعه وسره هو من صنع الخالق المُوجد المُبدع على غير مثال سابق.. ومن أحال اسم الله العظيم: فَاطِرِ على الأنوار تتضح له المعاني...

ومن حصر المعلومات المادية عن الطعام والإطعام في النصوص المادية الموجودة، واجتهد فيها حسب الأهواء والمنفعة الشخصية، فقد غير خلق الله وبدل الرفيع بالوضيع، وأفسد ما صنع الله بلئيم ما اقترفت يداه...

ومن نظر مليا إلى الآية العظيمة من قوله تعالى على لسان نبي الله يوسف : قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ .. انكشف له وجه آخر من المستور إن كان تقيا، وانفتح له باب من الفهم والتحليل إن كان ذكيا.. ذلك ان زرق الإنسان الطعامي أو "قوته الغذائي" في عموديته التكوينية أو أفقيته النفعية تابع لمسطرة ربانية في التوصيل والمتابعة لا تزيغ عنها ولا يحول، وله تأويل انوار ومسطرة أسرار لا ينمحي عنها ولا يزول، وذلك من علم الله العليم الحكيم يُعلمه من يشاء من عباده، وللعلم به أصول ولتأويله مسالك ومدارك وفصول... فجاهل من أراد أن يضيف إلى الأمور ما ليس منها، وجهول من حاول ان يلحق بالمملكة ما ليس فيها...

فإذا نظرنا إلى محكم الكتاب العظيم في عمودية الطعام وأفقية الإطعام نجد دلالات عظيمة نذكر منها آية تعتبر من الركائز المعرفية، قال عز ربي وجل: فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ ٢٤ أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَآءَ صَبّٗا ٢٥ ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقّٗا ٢٦ فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا حَبّٗا ٢٧ وَعِنَبٗا وَقَضۡبٗا ٢٨ وَزَيۡتُونٗا وَنَخۡلٗا ٢٩ وَحَدَآئِقَ غُلۡبٗا ٣٠ وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّٗا ٣١ مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ ٣٢..

فالتفكر في طعام الإنسان من عزائم الأمور، والنظر إليه لاستخلاص العبر أوجبها العزيز الغفور، بدليل قوله تعالى: فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ.. فاللام لام الأمر، وكل أمر في القرآن يقتضي الوجوب.. فهلا نظرنا إلى طعامنا كما أمر مولانا؟ ومن نظر حقا يذهَل عقله في عمودية الطعام كما جرى في سياق الآية: صب الماء وشق الأرض ثم الإنبات.. ولو كان البحر مدادا وأشجار الأرض أقلاما لما وفت عمودية الطعام في التنسيق بين عناصر الماء ومكونات الأرض ودوافع الإنبات المختلفة والمتنوعة والدقيقة والنافعة، بكل مقاييس العلوم المختلفة كيميائيا وفيزيائيا وبيئيا وجينيا ووراثيا وتأثيريا.. وكمّا وحجما ولونا وشكلا وذوقا... وما علمه الإنسان وما لم يعلمه وما لا يمكن أن يعلمه... وفي ذلك يقول احد المولهين بالنظر، وقد وصفه الأثريون بما لا يجوز قوله.. يقول في أبيات يتغنى بها من كان مثله:

أنظر جمالي شاهدا في كل إنســــــــــان

الماء يجري نافــــــذا في أس الأغصان

تجده ماء واحدا والزهر ألــــــــــــــــوان

أما من نظر إلى الوجه الثاني من عمودية الطعام أو الشطر الأول من أفقيته، فإنه يجد نتائج مبهرة أسفرت عنها هذه العملية التي اعتادها الإنسان بطبيعته ولا يعيرها أي اهتمام لظلمه بنفسه وجهله بربه وهي: صب هذا الماء العجيب: (أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَآءَ صَبّٗا) وشق هذه الأرض المطيعة: (ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقّٗا).. فيبدأ الإنبات (فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا)...

ويبدأ الشطر الثاني من أفقية الطعام، وذلك تشكيله وتنويعه وتخصصه حسب الغرض الذي يحتاجه الإنسان والحاجة التي تقتضيها مصلحته الغذائية كما وكيفا واستهلاكا عاجلا أو تخزينا آجلا... وعدّ ما تريد من الخصائص النفعية حتى ينقطع نفسك، فلن تحيط بنفعية الإنبات والمنبوت علما ولا إدراكا ولا حتى وصفا ظاهرا حسب الشكل أو الفصيلة أو المكونات أو مكوناتها...

ووجدت نفسي مضطرا لذكر بعض من هذه الأمور حتى تتضح الرؤيا ويجتهد الإنسان في الملاحظة حول طعامه الذي وجده موجودا وما أوجده كما يتهيأ له، ووجده ناضجا وما أنضجه وقد سبق معنى الآية الكريمة: أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ
ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ
.. لعله يشكر نعم الله فينعم بدوامها، ويتأدب مع المنعم فلا يتعرض لزوالها.. فمن غيبته العطية عن المعطي كان صبيا، ومن دلته العطية على المعطي كان له وليا، ومن تعامل مع العطاء بما يقتضيه أمر المعطي كان أمره مقضيا... .

اما سبب ذكر هذه الآية العظيمة: فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ... والفرق بينها وبين الآية التي قبلها في ترتيب المخلوقات النباتية: وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ... أن الأولى وردت في ذكر الخلق النباتي حسب ما اقتضاه الترتيب الزماني والتوزيع المكاني ويمكن أن نسميه ترتيب الخلق والنشأ.. أما الآية الثانية التي نحن بصددها، فهي تدل على ما يصلح للإنسان وما ينفعه، ويمكن أن نسميها ترتيب المنفعة أو المصلحة..

فالآية العظيمة هذه بعد ذكر أطوارها العمودية في الخلق والنشأ، ترتب ما تنبته الأرض حسب أولويات النفع، وذلك قوله تعالى: فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا حَبّٗا وَعِنَبٗا وَقَضۡبٗا وَزَيۡتُونٗا وَنَخۡلٗا وَحَدَآئِقَ غُلۡبٗا وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّٗا مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ... فهذا الترتيب النوعي هو من إبداع يد القدرة حسب ما ينتفع به الناس أولا بأول، والأمر من الله بالنظر إليه قصد اتباع واردات النفع فيه ومقتضيات الخلق النباتي وتصنيفه، فجاء في الآية متواليا: الحب، وبعده العنب، والقضب والزيتون والنخل...

فلو طبقنا ترتيب استعمال المواد الطعامية كما ورد في ترتيب الآية العظيمة لكان عندنا نظام غذائي رباني متوازن ونافع غذاء ودواء، ولما احتجنا إلى غيره، ولنحاول أن إلى هذا التسلسل ولو بعجالة (وأتمنى على المتخصصين أن يغوصوا في أعماق هذا الترتيب الرباني للمواد الغذائية من هذه الآية.. وهذا ما يمكن أن يسمى النظام الغذائي الرباني)..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire