ما هي القرانة:

القرانة هي طبيعة جبل الله الإنسان عليها، وهي تنقسم إلى قسمين أساسين..

1) قرانة الأصل:

وتتبع طبيعة الأصل، وتكون عند الإنسان منذ ولادته، ولها تأثير بالوراثة والوسط والانتماء، وأفضل أن أسميها "القرانة الأصلية"، وطبيعتها عادية، وتكون مذكرَة للذكور ومؤنثة للإناث إلا فيما نذر وتعوقت فيه أصول القرانة (وسنشرح هذا الباب إن دعت إليه ضرورة البحث)..

ومن فهم هذا يفهم معه ما يرافقه من حسن القرانة إن كانت نافعة أو سوئها إن كانت ضارة، ولكن طبيعة القرانة هي في مد العون لصاحبها فيما يخفى عليه من أمور أو على العموم فيما يتعلق بأمور المخفيين من الجن والشياطين، لكن الأمور أحيانا تفوق القرانة فلا تقدر عليها تماما كما تفوت القرابة من الإنس إن كانت تتعلق بالأمور المادية، وكأنك تقول أن للإنسان نوعين من الدعم، واحدة خفية وتتعلق بالقرانة وأخرى مادية وتتعلق بالقرابة (أردت أن أشرحها بهذه الطريقة حتى تتضح الرؤيا)..

فإذا كان الأمر على هذا النحو فلقرابة الإنس دائرة يستعين بها عند الضرورات في رفع المضار أو جلب المسار، فيكون كذلك الأمر بالنسبة لقرانة الجن، إذا أحس القرين بأمر يفوق طاقته وطاقة قرينه، فإنه يتقوى بمن هو أنفع منه في الدائرة و الفصيلة والعائلة (كل هذا يكون بدون علم الإنسان، وغيره كثير، كله من فضل الله عليه)..

2) قرانة الاكتساب:

وهي القرانة التي تضاف إلى الإنسان خلال حياته سواء كانت بطلب منه أو بتسلط عليه:

اما التي تكتسب بطلب منه، وهي حوامي أنظمة الحياة المختلفة، فقد جعل الله على كل نظام حياة من يحميه من الإنس والجن والملائكة ومن الكائنات الأخرى منها ما يعرف ومنها من لا يعرف.. أما من جهة الجن فهي تماما كما هي عند الإنس، فإذا فرضنا فلاحا بطبيعته تكون قرانته متجانسة معه، فإذا دخل مجالا مختلفا تماما كالتجارة أو الصناعة ولم يكن له أصل فيها نصيب معرفي فإنه يكون ملزوم أن يتعرف على أناس من الإنس منهم يأخذ وإليهم يبذل، ويتخذ منهم رفقاء او أصدقاء أو شركاء، فمن هذه الرفقة تكون قرانة من الجن مكتسبة لها خصائص المهنة الجديدة أو الصنعة أو التخصص... وهذا ينفع على قدر المهمة الجديدة وعلى قدر همة طالبها، فإنه يختلف القرين فيها، وإن كانت حلالا أو حراما يختلف القرين، وكذلك إن كانت تحتاج عزما أكثر أو قوة بدنية أو قوة فكرية... فافهم..

ومن قرانة الاكتساب ما يكون بالسلوك الجيد والترقي في الفضائل والأخلاق الرفيعة والنفرة عن الرذائل وسفاسف الأمور الوضيعة، فإن لكل سلوك نقي أهل يحملونه على أكف الطاعة بأمر الحكيم العليم، من العرش إلى الفرش ابتداء بالملائكة المقربين ومرورا بالجن المؤمنين، أما وعاءه الحقيقي فهو الإنسان، فإن سلكه بنية وصدق وقصد به وجه الله فإن السلوك تشرق انواره على حملته ويصبحون إخوانا للسالك في تلك الحكمة و ذلك النور، فهذا من قرانة الاكتساب، وتتسع مساحته على قدر اتساع أسماء الله الحسنة وصفاته العلا، وتعلو سماؤه على قدر ما تحيط به من بركات ومكرمات، وتغوص بحاره وعلى قدر همة السالك وطبعه وشاكلته ومعرفته بخفايا الأمور...

فمن الناس من يكون مؤهلا للمخاطبة والمرافقة والمبادلة، ومن الناس يكون مصطلم في الحواس الظاهرة متوجه بالحواس الباطنة لا يرى في الأسماء إلا أحكامها ولا في الصفات إلا الامتثال لها، ومن الناس من يمحق الكل بالكل ويخرج من الأسماء والصفاء إلى وحدة الذات فلا يرى في الأعمال والأفعال إلا منتهاها ولا يرى في الأمور إلا خالقها ومولاها، وهذا يرجع إلى طباع الناس وزاد القصد وحقائق التوجه، وكل له أهله، وكل ميسر لما خلق .. وقد خاض في ذلك من ليست له أهلية وحصل منه التباس في حقائق الأمور أفسد على الناس معارف المدد الخلقي والإمداد الخلقي (وهذا موضوع آخر)...

3) قرانة التسلط: وهي القرانة التي تسلط على الإنسان بسبب سحر (عمل سحري مقصود) أو حسد (من حسود بنظرة أو عين من قريب أو كراهية من بعيد) قال تعالى: وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ..

وهكذا يتحول هذا القرين المتسلط إلى عارض دائم، وإن استقر مقامه بالضرر في الإنسان، أو امتثل له المريض وتجانس معه في شر أعماله وسوء احواله يسمى "قرين السوء" (وهذا كذلك موضوعه طويل و أعراضه متعددة...)

أما إن كان من السحر، فهو يتبع طبيعة العمل السحري وحدته، والسحر وإن كان تعريفه واحد وقد سبقت الإشارة إليه، إلا انه يختلف حسب واضعه ومتبنيه، فإن كان بأعمال مدققة محسوبة بالأرصاد الفلكية والمواقيت المؤثرة والأشكال الهندسية والتوكيلات الشيطانية، فإن ذلك له تأثير فعلي على ما رصد له وقصد به، ولا يزول إلا بزواله ولا يبطل إلا ببطلانه.. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا في الأمر عندما سحر كما تروي أم المؤمنين، حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته؟ إنه أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند راسي والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (ومعناها مسحور)، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلع نخلة ذكر في بئر ذي أروان... فخرج إليها النبي الكريم ثم رجع فقال يا عائشة: نخلها كأنه رؤوس الشياطين، فقالت: أستخرجته؟ فقال: اما انا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا.. فأمر على البئر فدفنت...

(وهذا وجه من اوجه السحر وبعض من أدواته)... واما بداية علاجه فتشخيصه (وهو الذي بينه الملكين وهما جبريل وميكائيل) وأما وسيلته فهو طلب النبي الكريم بالسؤال إلى ربه.. وأما أداة الشفاء منه (وهذا من الأهمية بمكان) ففي رواية: أنه بعث علياً والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا هو مشاطة رأسه وأسنان مشطه، وإذا وتر معقّد فيه أحد عشر عقدة مغروزة بالإبر، فأنزل الله تعالى سورتي المعوذتين.. فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل عليه السلام يقول: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن حاسد وعين، الله يشفيك.. فقالوا: يا رسول الله أو لا نأخذ الخبيث فنقتله فقال: أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شراً..

وقد قيل كلام كثير حول النازلة وحصل لغط كبير حول مجرى الهدي النبوي و عصمته صلى الله عليه وسلم وصحة الحديث والحادث... وأحاول ان ألخصها فيما يلي:

السحر ثابت ضرره ومطلوب إزالته، ويجب أن يعتبر من الأمراض الظاهرة بصفته يقوم على ظاهر فعل (يفعله الساحر) وظاهر ضرر (يحس به المريض أو المسحور في بدنه أو عقله أو هما معا) وهو يضر كما تضر الشمس إذا اشتد حرها أو البرد إذا اشتد زمهريره، فيمكن أن تختلف الإصابة حسب المريض وشدة الحر أو البرد من الزكام إلى الحمى وربما يصل ذلك إلى إصابات أكثر تؤدي به إلى الهلاك أو الموت... كذلك العمل السحري، فالشياطين تمتلك أدوات خارقة في ذواتها ومتناولها (يمكن أن تستعملها من بعيد)، وكذلك لها اطلاع بمواد مؤثرة أو فتاكة لأنها من أصل خلقتها وهدف توجهها، يمكن أن تستعملها من قريب، أو تدخل في الجسد إن أمكنها ذلك(ولم تكن للجسد حصانة تحميه)، وتجري فيه مجرى الدم، فتغير أو تبدل في طبيعة العضو أو الأعضاء بنقل ما تحمله من خبث تكوينها و مكوناتها...

على العموم لا يجب أن تبقى على موضوع السحر وفعل السحرة هذه الهالة من التعتيم فيخافه الناس بدل خوفهم من الله، أو يعتبرون كل مرض سحرا، وينتحل حله وإزالته كل من ادعى ذلك بكلام أو أفعال او ممارسات خاطئة أو مغلوطة..

ومما يستفاد من حديث وحادث النبي الكريم (وهذا هو المهم) انه صلى الله عليه وسلم سُحر ولم يلاحَظ عليه أحد شيء، وإنما هو الذي تنبه لذلك، ولما أحس به توجه مباشرة إلى الله تعالى.. وهذا يدل على ان المؤمن التقي الذي يفعل الواجبات (الفرائض والنوافل) ولا يقلع عن الممنوعات (المحرمات والمكروهات) فإن السحر لا يضره ضررا بالغا، أو أن إيمانه يشكل له جهاز دفاعه المناعي، فيتنبه إلى الضرر ومستواه ويتوجه بكل سهولة إلى ما يمكن فعله... ولذلك يكون أول علاج للمسحور هو توجيهه وتنبيهه إلى الفرائض ولنوافل واجتناب النواهي، فإن التزم بذلك فهو نصف علاجه..

ويستفاد كذلك من الحديث والحدث، أن السحر يجب أن يعرف مكانه إن امكن، ويزال ويحل إن استطاع إلى ذلك سبيلا، وإن ما شرعه النبي الكريم في هذا الحدث ليس ضروريا بالطبع ولكن كان هناك تأصيل مادي لمعالجة أمر السحر وكذلك تمهيدا وأرضية لنزول المعوذتين الشريفتين، ودليل ذلك أنه كلما قرأ صلى الله عليه وسلم على عقدة انحلت من نفسها، وهذا يدل على انها يمكن أن تنحل في مكانها الأصلي ببركة هتين السورتين..(وهذا من الأهمية)، ويمكن أن يكون أصلا في إبطال السحر المعقود إن كان طالب ذلك و مستعمله مؤهلا لذلك (وأساس الأهلية هي التقوى وقرانة الخير كما سبق ذكره)، كما يمكن أن تكون بآيات أخر أو سور من كتاب الله التي ثبت من الثقات والمختصين التنظير لها، كما يمكن ان يستعان على ذلك ببعض العقاقير كالأعشاب أو غيرها قصد الإسراع بإزالته خصوصا إذا كان أصل الفعل مبني عليها أو مكون منها... وهذا يفهمه أهل الاختصاص، ومن زعم أن فعل شيء معين يمكن أن يزيل جميع انواع السحر، فهو كمن يزعم أن أي دواء للبشرة في الصيدلية يشفي جميع الأمراض الجلدية مثلا.. إلا إذا كان الشيخ تقيا نقيا فتح الله له في ذلك الباب وأعطي يدا معينة خفية في التنفيذ...

هذا على العموم ما يهم في هذه المعضلة القديمة الحديثة: "السحر"، وإن كان الوقت لا يسع لذكر أكثر من ذلك إلا أما وجب لأهميته فلا يمكن تخطيه، وبعض ما ذكر هو فقط يمكن أن يسمى السحر الفردي (بصفته موجّه بطريقة فردية إلى أحد الأشخاص بغرض ضرره أو هلاكه)، وإن كانت مناهجهه كثيرة ومتشعبة يشتد ضررها بتركيز المواد الضارة فيها وإلباسها بأعتى الشياطين وذلك يكون بتمكن الساحر من أوقات الرصد ومنعرجات تركيزه والقصد به، أما الذي أريد إضافته فهو شيء آخر كثير من الناس لا يعتبرونه، والواقع أنه سحر كله، وأذكر منه وجهين:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire