النوع الثاني من المحرمات:

وهو حلال في أصله مشوب في جنس العمل به أو التعامل معه كقوله تعالى: وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ.. فالإسراف في الأكل والشرب منهي عنه ولو كان المأكل والمشرب حلال...

ويمكن أن يطال البحث النوراني كل كلمة في الآية ليعرف الباحث أبعاد الكلمة المقصودة، فهنا مثلا كلمة: وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ.. فالإسراف في اللغة معروف، وهو الإفراط والتبذير والتجاوز والمبالغة... وعكسه الإقتار أو الشح أو البخل أو غلول اليد... وحالة المؤمن وسط بينهما.. قال تعالى: وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا ٦٧.. ولكن لا يصل العبد إلى هذا الوصف الذميم حتى تتحقق فيه هذه الأنوار المنكسرة فيتحقق فيه الإسراف، وعليه لا بد أن تستنبط أنوار الكلمة من خلال حروفها، وهي كما جاءت في الآية العظيمة: وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ..

التاء لها كمال الحواس الظاهرة وهنا لها الطمس بالعمى والصمم مع سلامة السمع والبصر..

والسين لها خفظ جناح الذل وهنا له التكبر والتجبر..

الراء لها حسن التجاوز وهنا لها التهور..

الفاء لها حمل العلوم وهنا له العبث بها..

الواو لها الموت في الحياة وهنا لها التلذذ بأمور الدنيا..

الألف لها امتثال أمر الله وهنا لها عصيانه سبحانه...

فالمنفق الذي تتوفر فيه هذه الأكدار وتتحقق فهو مسرف، وسلوك الإسراف فيه يتخلل كل عضو ظاهري وباطني يسري فيه النور فينقلب ظلمة وتنتكس خاصية العضو وتنقلب إلى عكسها، فيصدق عليه حكم العزيز الحكيم: إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ..

و كلمة يُحِبُّ .. هي انوار ربانية يشعلها العزيز الحكيم فيمن أحب من عباده، فتشرق فيه انوار الكلمة الثلاثة: يُحِبُّ .. وهي الخوف من الله تعالى للياء، والرحمة الكاملة للحاء، وسكون الروح في الذات سكون المحبة والرضا والقبول لحرف الباء..

وأما من حكمت عليه الآية ب: لَا يُحِبُّ.. فهو تنتكس فيه هذه الأنوار وتتحقق فيه أكدارها ويصبح: 1) لا يخاف الله.. وهي ظلمة الياء، 2) ولا يرحم أحدا.. وهي ظلمة الحاء، 3) وتصبح نفسه طاغية على الروح بدل أن تسكن وتسعد.. وتصبح شقية متمرة، ولو كان لها من الماديات والوسائل ما لها (فافهم)..

فمن كان يهمه أمر البحث العلمي الرباني فإن في المادة تحتاج إلى بحث عميق كما وردت في كتاب الله، وهي الأنوار الثلاثة الناطقة في كلمة يُحِبُّ.. والأكدار الثابتة في كلمة لَا يُحِبُّ.. ومن تأملها على سياق الآيات فإنه يجد تخصصات مختلفة لا تشبه بعضها، سواء كانت في الأنوار كقوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ.. وقوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ.. وقوله تعالى: وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ.. وقوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ.. و: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ.. و: فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ... وإن كانت تأتي مكررة أحيانا مرتين أو أكثر كقوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ.. فمن تأمل ما سبقها في سياق الآية فإنه يجد نوعا من الإحسان أو باب منه، وهكذا في كل ما تكرر من النعوت المحبوبية عند المحسنين..

أما في قوله تعالى مبينا انتكاس انوار الإحسان كقوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ .. وقوله تعالى: وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ.. وقوله تعالى: وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ .. وقوله تعالى: وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ .. وقوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ.. و: وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ.. و: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا... .

ونفس الشأن في تكرارات الآيات التي تبين الصنف المبغوض عند الله، فكلما تكررت فإنها تبين نوعا مخصصا في الوصف المذكور.. ولو جمعت هذه الآيات البينات فإنها تبين عن فقه مخصص وتام في الالتزام والاتزان، وإن شئت أن تسميه فرع من فقه النفس.. أو فقه القلوب بين المحبة والبغضة... فإنه جدير أن يدرس في جامعات التخصص في علم الاجتماع أو فقه التصوف أو فقه التخصص أو فقه السلوك... .

اما إذا رجعنا إلى انوار الأطعمة الأخرى المحرمة وإن كان أصلها حلال كما سبقت الإشارة إليه كقوله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰف
ٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ.. وقوله تعالى في أكل مال اليتيم: وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ
كَانَ حُوب
ٗا كَبِيرٗا... .

وكذلك الأمر في تحريم آخر متعلق بفعل المحرم من السلوك سواء كانت أقوالا أو أفعالا أو أحوالا، وتجمعها ظلمات كلمة " ٱلۡفَوَٰحِشَ" قال تعالى: قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ..

فالحكم فيه التحريم كما سبق على أنوارها المفقودة، ويتأذى منها المرء حسب أعراض "حرّم" وهي هنا تشكل خريطة من الأفعال عجيبة في التركيب، منها: ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ.. والفواحش جمع فاحشة، وفي القاموس ما يبين المعنى على المستوى اللغوي، لكن على الأنوار كل فعل اكتملت فيه أكدار الكلمة، ومن بحث في كتاب الله يجد جميع مواصفات الفاحشة، وإن قاسها على الأنوار يظهر من علم الله ما تكل معه الألسن، كقوله تعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ.. فـ " فَٰحِشَةٗ"هي كل سلوك جنسي شاذ، سواء تعلق بالنساء مع الرجال من غير موجب شرعي، كقوله تعالى: وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا.. أو بالاقتراب من المحارم، أو في الشذوذ الجنسي كعلاقة الرجال بينهم والنساء بينهن.. والآيات في الموضوع ظاهرة في كتاب الله لا داعي للتطويل في ذكرها...

فالمهم عندنا هو أن فاعل هذه الفاحشة يكون له نفس الحكم المرضي كمن أكل الحرام سواء كانت ميتتا أو دما أو لحم خنزير او ما أهل لغير الله به... والأمر لا ينتهي هنا فقط، بل صنف العليم الحكيم سلسة من الأمور المحرمة تتعلق بالعقائد وبالسلوك مع الغير كقوله تعالى في آية التحريم المعروفة : ۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ١٥١ وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ١٥٢ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ ..

فإذا أراد الباحثون المتخصصون الغوص في موضوع التحريم فما ذُكر منها هي الخطوط العريضة فقط، ومثلها كثير في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وأجدني مضطرا لذكر شيء مهم قبل الانتهاء من هذا الموضوع، ذلك أن ما حرمه الشرع هو لضرره بالإنسان فقط، وهذا التحريم تخرق فيه العادة حسب حاجة الفرد وقدرته الإيمانية واليقينية.. وإن كان في الموضوع شيء من خرق العادة، ولعله يفيد الباحثين لما فوق العادة أو ما وراء الطبيعة بهذا الطرع الرباني العجيب، وحتى يعلم أن الله تعالى ما فرط في الكتاب من شيء..

فإذا قل إيمان العبد أكثر من اللزوم، فلكي يستقيم حاله فإنه يكون كمن يمتثل بين يدي الطبيب فيمنع عليه أطعمة أصلها حلال ولكن له فيها ضرر، كذلك الأمر في ذكر بعض انواع الحرام الذي اضطر إليها الإنسان كقوله تعالى في نفس الأصناف المذكورة: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ.. فالاضطرار هنا مع مواصفات غير باغ ولا عاد.. فإنها ترفع الإثم (يعني ترفع الضرر)، وقد فسرت الآية بشتى المعاني من المفسرين وكلها سليمة.. لكن أسرار: "باغٍ" و "عادٍ" في انوارها وأنوارها في حروفها، والمعنى أن الإنسان مع الاضطرار إذا كانت فيه هذه الأنوار قائمة فلا يضره الحرام ولا يؤثر عليه في جهازة الحسي(القلب) أو العصبي (الفكر) أو الجسدي (أعضاء الجسد) وهذا سر المبحث العلمي ومدخله، ومنه جارت أسرار أخر لما سلف ذكره وهي كالتلي:

قال تعالى في بني إسرائل: فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا... (الآية) والتأويل هو أنهم بظلمهم الجسيم لأنفسم هشت قواهم، وبعدت طريقهم للرجوع، فالحق سبحانه وتعالى يبين لهم المخرج لرحمته سبحانه بخلقه وذلك هو تحريم بعض ما أحل لغيرهم... (وهذه قاعدة طبية ربانية) وهذا ما يفعله المشايخ لبعض مريديهم لله في الحال الذي استعصي عليهم، والأمثلة في ذلك كثيرة ومتعددة عند أهل التصوف وتربية المريدين... فإذا كان المريض لا حق له في جدال طبيبه في نوع الأدوية ولا طريقة استعمالها، فكيف يناقش مريد الله شيخه العارف بالله، وهو يريد القرب من الله ...

وأمر التحريم هذا الذي كان لبني إسرائيل كما جاء في آية أخرى قال تعالى: ۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ.. وهذا يدل على العبد إذا صالحا فإنه يلمس ضرر الطعام فيحق له تحريمه على المنهج الرباني تماما كما يلمس الطبيب ضرر الطعام على المريض..

هذا ونحن نذكره من باب ضعف العبد، فكيف نحكم على العبد الصالح الذي قتل غلاما (كما ورد في سورة الكهف) وكان جوابه لنبي الله موسى من قوله تعالى: وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا.. فكيف كان أمر العبد الصالح؟ وما معنى تسطع؟ وما الفرق بين قوله تعالى على لسان الخضر عليه السلام: فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ (في قتل الولد) و: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ.. (في كنز الولدين)؟؟؟

وهذا الطرح وإن كان يبدو بعيدا عن الموضوع، لكنه لصيق به قرب الروح من الجسد، ونافع في الطب كما ينفع التخصص في معالجة الأمراض (وربما نجد وقتا، او أحبابا، نناقش معهم مثل هذه المواضيع، ونأخذ معه ونرد...)

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire