الآية الخامسة من آيات الشفاء:

وموقعها في سورة الشعراء الآية 117، ونصها: وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ.. وجاءت على لسان أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، وجاءت الآية في سياق النفي والتثبيت كما يليق بتوحيد نبي الله إبراهيم.. وللآية العظيمة قبلية وبعدية..

وأما قبليتها فهي الدلالة على نعمتي الإيجاد والإمداد (ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ) وإلى نعمة الزاد والاستعداد (وَٱلَّذِي هُوَ يُطۡعِمُنِي وَيَسۡقِينِ) وإلى نقمة الابتداع ونعمة الاتباع (وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ) وإلى حقيقة الحياة والممات (وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحۡيِينِ) وإلى حقيقة التعلق والتحقق (وَٱلَّذِيٓ أَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لِي خَطِيٓ‍َٔتِي يَوۡمَ ٱلدِّينِ)...

والسورة الكريمة سميت "سورة الشعراء" لذكرهم فيها وبها ختمت من قوله تعالى: وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ ، أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ ، وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ ، إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا... (الاية)

ومسار السورة كله يعالج حرف الآدمية الذي أقام الله فيه بني آدم ودلهم على القوامة فيه والقيام به حتى يخرجوا من نقص الآدمية إلى كمالها ومن انتكاسها إلى علوها وسموها وشموخها، وبذلك ابتدأت السورة وبها افتتحت، قال تعالى: طسٓمٓ.. تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ، لَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ، إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ...

واستهلت به السورة بالحروف السريانية: طسٓمٓ.. ومعناها على التوالي:

ط: وتعني الطهارة التامة والصفاء الكامل في الجنس..

س: سر الذات الكاملة بصفاء العقل وطهارة النفس..

م: نور الذات الواضح الذي تصبح فيه البصيرة كالبصر..

والسورة الشريفة تعالج هذه الخصائص الذاتية بمعطيات ربانية رفيعة وبأمثلة مادية محضة من الأمم الخوالي، وذكر العليم الحكيم فيها سبع عقبات بذكر علل سبع أمم، وبعث سبع أنبياء كل منهم بمنهج معين في التوحيد وحل موضعي للعلة التي ساقت إلى المروق من منهج الله الذي تدل عليه الحروف السريانية التي عنونت سورة الشعراء، اما الأنبياء الكرام هم: موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام الذي كان تكلملة الرقم ثمانية، والذي تبتدئ بهداه السورة وبه تنتهي فافهم..

ومن عجائب تركيب هذه السورة العظيمة أن في ذكر كل خصلة ذميمة لقوم من الأقوام، وبيان العلة فيها، وإظهار الحل على يد نبيها، ويكون الحكم فيها بأمر الله يطبع القرآن بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِينَ..

ولم يكتف التشخيص الرباني في هذه السورة العظيمة إلا بذكر العلل صراحة حتى يكون فهم الإنسان العادي وحى لا يقول قائل بديبجة العلل والأحكام، وجاء ذلك من باب حرف الرسالة على حرف الآدمية ليخرجها من الظلمات إلى النور، وورد في كلمة "رسول".. وجارت كذلك سبع مرات لبيان سبع علل ومهلكات والدلالة على سبع مخارج ومنجيات..

اما الأولى فجاءت في حق موسى قال تعالى: فَأۡتِيَا فِرۡعَوۡنَ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ، أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ..

والثانية كانت في ذمها من فرعون ردا على الحرف الرباني قال تعالى: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيٓ أُرۡسِلَ إِلَيۡكُمۡ لَمَجۡنُونٞ ، قَالَ رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ..

أما الخمسة الباقية فجاءت فجاءت بنجمة خماسية الأركان من سلوك البعد والشقاء، وعكسها رسالة الشفاء من هذه الأسقام والعلل هدية من رب الأرض والسماء، وجاءت كلها تحمل سياقا موحدا ومكررا كلها دال على رسالة التوحيد..

أولها: في قوم نوح: قال تعالى: إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ ، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَمَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ...

أما نص الخطاب فكان: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ.. وأما نص الجواب فكان: قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلۡأَرۡذَلُونَ.. فكانت العلة في عدم الإيمان هي: الكبر الناتج عن محبة الدنيا..

الثانية: في قوم عاد، قال تعالى: إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ ، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَمَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ..

أما نص الخطاب فكان: أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةٗ تَعۡبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشۡتُم بَطَشۡتُمۡ جَبَّارِينَ... (الآية) فكان نص الجواب: قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَوَعَظۡتَ أَمۡ لَمۡ تَكُن مِّنَ ٱلۡوَٰعِظِينَ، إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا خُلُقُ ٱلۡأَوَّلِينَ، وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ... وجوهره التمسك بالدنيا والعبث بريعها والاندماج الكلي في صاناعاتها والبطش بالناس، وهذا أعمى منهم البصائر وأطمس منهم السرائر فلم يروا من أنفسهم إلا أنفسهم وملخصه: الانغماس في الدنيا..

الثالثة: وكانت في قوم صالح.. قال تعالى: إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ صَٰلِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ..

وأما نص الخطاب فكان من قوله تعالى: أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ ، فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ، وَزُرُوعٖ وَنَخۡلٖ طَلۡعُهَا هَضِيمٞ ، وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا فَٰرِهِينَ ، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ، ٱلَّذِينَ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ.. فكان نص جوابهم من قوله تعالى: قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِينَ، مَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا فَأۡتِ بِئايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ..(الآية)... وجوهره الإسراف وما يترتب عليه من الإفساد..

الرابعة: وكانت في قوم لوط.. قال تعالى: إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ ، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَمَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ..

اما نص الخطاب فكان من قوله تعالى: أَتَأۡتُونَ ٱلذُّكۡرَانَ مِنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٌ عَادُونَ.. فكان نص جوابهم من قوله تعالى: قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُخۡرَجِينَ.. وجوهره: العبث بالنعم الحلال وهي من الأزواج إلى المروق في إتيان الذكور (اللواط)..

الخامسة: وكانت في قوم شعيب.. قال تعالى: إِذۡ قَالَ لَهُمۡ شُعَيۡبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ ، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَمَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ..

وأما نص الخطاب فكان من قوله تعالى: أَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُخۡسِرِينَ، وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِ، وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ.. فكان جوابهم الرافض من قوله تعالى: قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِينَ، وَمَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ (الآية).. وجوهره: الغش وإبخاس الناس أشياءهم... .

ولعلي أطلت في هذا الباب، وليس ذلك إلا لتنوير الباحث في هذا الباب الذي تقوم عليه مقاصد هذه السورة الشريفة، والتي عليها سميت، وسر ما دلت عليه هي هذه الأركان الخمسة من الانوار إن طبقت، أو الأكدار إذا اتبعت فيها النفس مع هواها، أو كأنك تقول أنها خمس خصائص لخمس أصناف من الناس إن وقع الواحد في أي منها فقد شخصيته السليمة ولبس بدلها شخصية سقيمة... .

ومن تأل مليا في هذه الأركان الخمسة للفساد والإفساد فإنه يجدها لا تنفك عن بعضها، في السرد التسلسلي من السورة الشريفة:

فالأولى تحث على الإيمان بالله وعدم العبث بأوامره، ونسميه التوجيه النوحي..

فإن من لم يمتثل أمر الله يسقط حتما في الثانية وهي: التمسك بالدنيا والتلذذ بها وتمني الخلود فيها، ويترتب على ذلك الإضرار بحقوق الغير، لأن طبيعة الحقيقة أوجدت للجميع ما يكفيهم، والإكثار من الشيء يكون فيه سلب حق الآخر، ويمكن ان نسميه الخطاب العادي (المنسوب لقوم عاد)..

ومن سقط في الثاني أصبح سهل الوقوع في الثالث، الذي يمكن أن نسميه خطاب صالح، وهو عدم القناعة حتى لو لو جمع من الدنيا كل ما يرى، وهذا يسمى الإسراف ، والمسرف لا يقنع من النعم فتحيله نفسه على سلبها..

وإذا سقط في الإسراف انتقل بسهولة إلى الرابعة بعدها، وذلك اتبدال النعم نقما حتى لو كانت في ذات النعمة، فيحصل الزنا والفجور، ويمكن أن يصل المسرف فيها حتى إلى عمل قوم لوط، والمثال أصبح واضحا في زمننا للعيان..

ومن وقع في هذه الخبائث لا يؤتمن له ركن ولا يأمن منه مخلوق، فإنه يدخل في خطاب شعيب، فكل فعله يصبح مدخولا بالخلل وكل كلامه يصبح محشوا بالعلل وكل فعله يصير منبعا للزلل، فإن قال يلبس على الناس حقهم، وإن باع يبخس الناس أشياءهم، وإن فعل يضيع على الناس فعلهم... هكذا تدخل العلل في الناس بالبعد عن الله حتى يصبح العبد علة في ذاته، وليست فقط له علة في ذاته... أولئك النجَس، وذلك هو الشرك الأعظم، وإن لبس عليه جلاليب الدنيا وتعمم بكل الأقمشة ..

ولعلي أطلت في هذا الباب لضرورة ما احتواه، وقد سبق تحليل كلمتي: مرضت و يشفين، فمن تأمل الموقعين تظهر له انوار التخصص ويهتدي إلى تخصص طبي حقيقي سلوكي، هو من الدين بموقع ومن نفع الناس بقرب ..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire