علم منك أنك لا تصبر عنه فأشهدك ما برز منه، لما علم الحق منك وجود الملل لون لك الطاعات، و علم ما فيك من وجود الشره حجرها عليك في بعض الأوقات، ليكون همك إقامة الصلاة لا وجود الصلاة، فما كل مصل مقيم.

لمــا علم أنك لا تصبـر عنه، أشهـدك ما بــرز منــه

قلـت: لما فصل الحق سبحانه هذه الروح، التي هي لطيفة نورانية من أصلها، و تغربت عن وطنها، تعشقت إلى أصلها، و تعطشت إلى محبة سيدها، فلما علم الحق سبحانه أنها لا تصبر عنه، و لا تقدر أن تراه على ما هو عليه من كمل جلاله، و نور بهاء جماله، ما دامت في هذه السجن الذي هو قفص البدن، أشهدها الحق تعالى ما برز منه من تجلياته في مظاهر مكوناته، و آثار صفاته، لكن لا بد للحسناء من نقاب و للشمس من سحاب، فبرزت أنوار الجبروت إلى رياض الملكوت، فغطتها سحائب الحكمة، و آثار القدرة، فبقيت الروح تتعشق إلى أصلها من وراء سحائب الآثار، فإذا انقشع السحاب، و رفع الحجاب، لقي كل حبيب حبيبه، و عرف كل إنسان مثواه و مستقره، فقنعت الروح بشهود المعاني خلف رقة الأواني، و إليه أشار الشيخ الغوث أبو مدين رضي الله عنه بقولــه:

فلولا معانيكم تراها قلوبنا

إذا نحن أيقاظ و في النوم إن غبنا

لمتنا أسى من بعدكم و صبابة

و لكن في المعنى معانيكم معنا

أي فلولا معاني ذاتكم تراها قلوبنا في مظاهر صفاتكم لمتنا عشقا، أو فلولا معاني ربوبيتكم تراها قلوبنا في مظاهر مكوناتكم، أو فلولا معاني الجبروت، نراها قلوبنا في عالم الملكوت، لكتنا أسى، أي حزنا على فراقكم و شوقا إلى لقائكم.

و قوله: و لكن في المعنى معانيكم معنا، أي و لكن معانيكم التي تشاهدها قلوبنا في المعنى، معنى عظيم، فاستأنسنا بمشاهدتاها، و آنست أرواحنا بها، فلم نمت عشقا و شوقا، و الله تعالى أعلــم..

 

الحكمة في تلوين الطاعات

لمــا علم منـك و جود الملل لـون لـك الطاعــــات

قلـت: من كرمه تعالى و حسن اختياره لك أيها العبد، أنه لما علم أنك لا تقدر أن تصبر عنه أشهدك ما برز منه، و لما علم الحق سبحانه أن من عباده من لا يقدر أن يشهده فيما برز منه، أشغله بخدمته، و لما علم منه أنه ربما يمل من خدمة واحدة، لون له طاعته، لأن من شأن النفس أن تمل من تكرر الشيء الواحد، و في ذلك يقول الشاعر:

لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة

إلا التنقل من حال إلى حال

فلون لك طاعاته، فإذا مللت من الصلاة مثلا انتقلت إلى ذكره، و إذا مللت من ذكره انتقلت إلى قراءة كتابه و هكذا، و أنواع الذكر كثيرة، و التنقل من موجبات النشاط، فالعبادة مع النشاط أعظم من العبادة مع الكسل و إن كثرت، إذ ليس العبرة بكثرة الحس و إنما العبرة بوجود المعنى، و قال الشيخ زروق رضي الله عنه: فلونت له الطاعة لثلاثة أوجه: أحدها رحمة به ليستريح من لون إلى لون، الثانـي، إقامة للحجة عليه، إذ لا عذر له في الترك، الثالـث، لتثبت له النسبة في العمل بوجود التخيير في الجملة، فتكمل الكرامة و تسهل الطاعـة..

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إذا وافق الحق الهوى فذلك الشهد بالزبد، و من سار إلى الله بطبعه كان الوصول أقرب إليه من طبعه، و من سار إلى الله بمخالفة طبعه كان الوصول إليه بقدر بعده عن طبعه و متى يصح بعده عن طبعه، و المقصود إنما هو موافقة الحق لا مخالفة النفس، و شواهد السنة لا تخفى فافهــم..

 

و من دواعي الملل، وجود الشره، و هو الحرص، و موجبه هو الإطلاق في العمل، فلذلك قيدت الطاعة بأعيان الأوقات كما أبا ذلك بقوله:

و علــم ما فيــك من وجود الشــره فحجرها عليــك في بعض الأوقــات

الشره خفة في النفس، يوجب المسارعة للعمل و الإسراع فيه، و ينتج من ذلك آفات ثلاث:

أولها الترك عند الدوام لتروي النفس و ضيقها..

الثانــي، الملل و هو التثاقل، إن لم يكن ترك، الثالــث..

الإخلال بالحقوق لوجود العجلة..

و الحجر بالوقت فيه فوئد ثلاث:

أولها منع الشره، إذ لو كانت مرسلة لوقعت النفس فيها على وجه الشره..

الثانــي: نفي التسويف، لولا الوقت لكانت تعده من زمن إلى زمن، فيؤدي إلى التفريط..

الثالـث، التمكين من العمل و التمكن فيه، إذ لولا الوقت لأهمل العمل، و لم يحافظ عليه لغلبة الهوى، و لم يحفظه استعمالا للحظوظ /.

 

السر في الصلاة إقامة الصلاة

ليكن همك إقامة الصلاة لا وجود الصلاة، فمــا كل مصــل مقيـم

قلت: السر في تحجير الصلاة في بعض الأوقات لتشتاق النفس إليها و ترتاح بها، فيحصل فيها الخشوع و الحضور و قرة العين، بخلاف ما إذا كانت دائمة فيها فلا تتعشق إليها، بل ربما تمـل، فتوقعها على غير تمام، و المقصود منك حركة قلبك لا حركة جسمك، إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى أعمالكم و لكن الله ينظر إلى قلوبكم، ليس الشأن في حركة الأشباح، إنما الشأن خضوع الأرواح، فالشأن في تحجر الصلاة عليك في بعض الأوقات ليكون همك إقامة الصلاة، و هو إتقانها و القيام بحقوقه الظاهرة و الباطنة، لا وجود الصلاة من غير إقامة، فهي إذاك ميتة خاوية، و تكون إلى العقوبة أقرب..

قال الإمام القشيري رضي الله عنه: إقامة الصلاة هو القيام بأركانها و سننها، ثم الغيبة عن شهودها بمن يصلى له، فتحفظ عليه أحكام الأمر على ما يجري عليه منه، و هو عن ملاحظتها محو، فنفوسهم منه مستقبلة إلى القلبة، و قلوبهم مستقرة في حقائق الوصلة/.

و قال المؤلف رضي الله عنه: إقامة الصلاة حفظ حدودها مع حفظ السر مع الله عز و جل، لا يختلج بسره سواه/.

و كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله، أنه أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها و حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، و من ضيعها فهو لما سواها أضيـع/.

ثم ذكر وجه كون المطلوب هو الإقامة دون الوجود من حيث هو، فقال:( فما كل مصل مقيم )، لأن الإقامة في اللغة هي الإتقان، يقال أقام فلان داره، إذا أكملها و جعل فيها كلما يحتاج إليه، فإقامة الصلاة إتقانها كما تقدم، و ضد الإقامة هو الإخلال و التفريط، فليس كل مصل مقيما، و كم من مصل ليس له من صلاته إلا التعب، و في بعض الأحاديث: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر فلا تزيده من الله إلا بعدا " و في حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم: " إذا صلى العبد فلم يتم ركوعها و لا سجودها و لا خشوعها لفت كما يلف الثوب الخلق ثم يضرب بها وجهه " أو كما قال عليه الصلاة و السلام، فالمصلون كثير و المقيمون قليل، و أهل الأشباح كثير و أهل القلوب قليل..

قال أبو بكر بن العربي المعافري رحمه الله: و لقد رأيت ممن يحافظ عليها آلافا لا أحصيها، و أما من يحافظها بالخشوع و الإقبال فما استوفى منهم خمسة، و قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل موضع ذكر فيه المصلون في موضع المدح، فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها، قال سبحانه و تعالى: ( الذين يومنون بالغيب و يقيمون الصلاة)( رب اجعلني مقيم الصلاة)( و أقام الصلاة)( و المقيمي الصلاة) و لما ذكر المصلين بالغفلة قال تعالى:( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) و لم يقل فويل للمصلين الذين هم عن إقامة صلاتهم ساهون /.

و اعلم أن الخشوع في الصلاة على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى خشوع خوف و انكسار و إذلال و هو للعباد و الزهاد..

المرتبة الثانية: خشوع تعظيم و إجلال و هو للمريدين السالكين..

المرتبة الثالثة، خشوع فرح و سرور و إقبال، و هو للواصلين من العارفين و يسمى هذا المقام قرة العين كما يأتي بإذن الله..

و اعلــم أن الصلاة التي لا يصحبها خشوع و لا حضور هي باطلة عند الصوفية، غير مقبولة عند العلماء، و قالوا ليس للعبد من صلاته إلا ما حضر فيها قلبه، فقد يكون له ربع صلاته، أو نصفها، بقدر ما حضر فيها، و يعيـن على الخشوع الزهـد في الدنيا، و هذا هو الدواء الكبير، إذ محال أن تكون عندك بنت إبليس و لا يزورها أبوها، فلا يتأتى الخلوص من الخواطر ما دامت في القلب، و قليلها هو كثيرها، فمن بقيت فيه بقية منها، فإن الخواطر تأتيه على حسبها، فمحال أن تكون شجرة الدنيا في قلبك، و تسلم من الخواطر، و مثال ذلك، كشجرة عندك في بستان تجتمع عليها الطيور، و يهولونك بأصواتهم، فكلما شوشتهم رجعوا، فلا ينقطعون عنك أبدا حتى تقطع تلك الشجرة، فإذا قطعتها استرحت من أصواتهم، كذلك الدنيـا، ما دامت في اليد و هو معمور بها، لا يسلم القلب من خواطرها حتى يخرج عنها، و يستريح حينئذ من مساويها، و الله تعالى أعلم.

و ممن يعين كذلك على الخشوع، الإكثار من ذكر الله بالقلب و القالب، و إدمان الطهارة، لأن الظاهر له تعلق بالباطن، إذا طهر هذا طهر هذا و بالله التوفيق، ثم ذكر نتائج الصلاة و ثمراتها، و مرجعها إلى ست، كل واحدة توصل إلى ما بعدها، و إن إلى ربك المنتهى، فأشار إلى الأولى بقولــه:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire