إنما يستوحش العباد و الزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء، فلو شهدوه في كل شيء لم يستوحشوا من شيء.

قلـت: العبّـاد هم الذين غلب عليهم الفعل، فهم مستغرقون في العبادة الحسية، يقومون الليل و يصومون النهار، شغلتهم حلاوة العبادة عن شهود المعبود، فحجبوا بعبادتهم عن معبودهم، و الزهاد هم الذين غلب عليهم الترك، فهم يفرون من الدنيا و أهلها، ذاقوا حلاوة الزهد، فوقفوا معه و حجبوا عن الله، فهم يستوحشون من الأشياء لغيبتهم عن الله فيها، و لو عرفوا الله في كل شيء ما استوحشوا من شيء، و لآنسوا بكل شيء، و تأدبوا مع كل شيء، و العارفون لنفوذ بصيرتهم، شهدوا الخلق مظاهر من مظاهر الحق، فحجبوا أولا بالحق عن الخلق، و بالمعنى عن الحس، و بالقدرة عن الحكمة، ثم ردوا إلى شهود الحق في الخلق، و القدرة في الحكمة، فحين عرفوه في كل شيء آنسوا بكل شيء، و تأدبوا مع كل شيء، و عظموا كل شيء، و في هذا المقام قال المجذوب رضي الله عنه:

الخلق أنـوار، و أنـا رعيت فيهــم *** هـم الحجـب الكبـار، و المدخـل فيهــم

و قال سيدي علي رضي الله عنه على قول أبي الحسن الشاذلي في شأن الخلق: أراهم كالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئا، قــال: بل إن فتشتهم وجدتهم شيئا، و ذلك الشيء ليس كمثله شيء، يعني وجدتهم مظاهر من مظاهر الحق، أنوارا من أنوار الملكوت، فائضة في بحر الجبروت، كما قال صاحب العينية رضي الله عنه:

تجليت في الأشياء حين خلقتها

فها هي ميطت عنك فيها البراقع

قطعت الورى من ذات نفسك قطعة

و لم يك موصول و لا فصل قاطع

 

و قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:

طلـع النهـــار على قلبي *** حتـى نظــــرت بعينـيَ

أنـت دليلـي يـا ربــي *** و أنـت أولـى منـي بــيَ

و الحاصل أن العارفين بالله غابوا عن شهود الخلق بشهود الحق، فهم مع الخلق بالأشباح، و مع الحق بالأرواح، ماتوا و بعثوا، و قامت قيامتهم، و تبدلت في حقهم الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار، فهم يرون الأنوار و الناس في ظلمة الأغيار، كشف لهم في هذه الدار عن أسرار مكوناته مسدولة عليها قهارية أستاره، و سيكشف لهم في تلك الدار عن أسرار ذاته من غير حجاب الحكمة التي أثر صفاته، كما أشار إلى ذلك بقولــه:

 

سر النظــر

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire