تنوعت أجناس الأعمال لتنوع واردات الأحوال، و الأعمال صور قائمة، و أرواحها وجود الإخلاص فيها.

تنوعــت أجنـاس الأعمــال بتنـوع واردات الأحــوال

تنويع الشيء، تكثيره، و الأعمال هنا عبارة عن حركة الجسم، و الواردات و الأحوال عبارة عن حركة القلب، فالخاطر و الوارد و الحال محلها واحد، هو القلب، و هو محل الخواطر نورانية كانت أو ظلمانية، و أهل الحقيقة سموها خواطر إذا كانت ظلمانية، أما إذا كانت نورانية سموها واردات و أحوالا..

 لكن ما دامت تخطر في القلب خواطر ظلمانية و نورانية، يسم ما يخطر خاطرا و إن انقطعت عنه الخواطر الظلمانية سمي ما يخطر فيه واردا أو حالا، فإضافة أحدهما إلى الآخر إضافة بيانية و كلاهما يتحولان، فإن دام ذلك يسمى مقاما..

   قلت: أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإن ورد على القلب ظهر على الجوارح أثره من السكون، و إن ورد عليه بسط ظهر على الجوارح أثره من الخفة و الحركة، و إن ورد على القلب زهد و ورع ظهر على الجوارح أثره، و هو ترك و إحجام أي تأخر، و إن ظهر على القلب رغبة و حرص ظهر على الجوارح أثره، و هو كد و تعب، و إن ورد على القلب محبة و شوق ظهر على الجوارح أثره، و هو شطح و رقص، و إن ورد على القلب معرفة و شهود، ظهر على الجوارح أثره، و هو راحة و ركود إلى غير ذلك من الأحوال و ما ينشأ عنها من الأعمال، و قد تختلف هذه الأحوال على قلب واحد، فيتلون الظاهر في أعماله، و قد يغلب على قلب واحد حال واحد، فيظهر عليه حال واحد، فقد يغلب على الشخص القبض، فيكون مقبوضا في الغالب، و قد يغلب عليه البسط كذلك، إلى غير ذلك من الأحوال و الله تعالى أعلم..

   و في الحديث: " إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله، و إن فسدت فسد الجسد كله، ألا و هي القلب"

قلــت: و لأجل هذا المعنى اختلف أحوال الصوفية، فمنهم عباد و منهم زهاد و منهم الورعون و المريدون و العارفون، قال الشيخ رزوق رضي الله عنه في قواعده:

     قاعدة: النسك، الأخذ بكل مسلك من الفضائل من غير مراعاة لغير ذلك، فإن رام التحقيق في ذلك أي النسك، فهو العابد، و إن مال للأحوال، فهو الورع، و إن آثر جانب الترك طالبا للسلامة فهو الزاهد، و إن أرسل نفسه في مراد الحق فهو العارف، و إن أخد بالتخلق و التعلق فهو المريد أهـ.

   قاعــدة أخرى: لا يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقاصد، بل يكون متحدا مع اختلاف مسالكه، كالعبادة و الزهد و المعرفة مسالك لقرب الحق على سبيل الكرامة، و كلها متداخلة، فلا بد للعارف من عبادة و إلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه، و لا بد له من زهادة، و إلا فلا حقيقة عنده إن لم يعرض عمن سواه، و لا بد للعابد منها إذ لا عبادة إلا بمعرفة أي في الجملة، و لا إفراغ للعبادة إلا بزهد، و الزاهد كذلك، إذ لا زهد إلا بمعرفة، أي في الجملة، و لا زهد إلا بعبادة و إلا عاد بطالة  فمن غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد، أو النظر في تصريف الحق فعارف، و الكل صوفية و الله أعلم..

 

السر في العمل هو الصدق فيه

   و لما كان الإخلاص شرطا في كل عمل، ذكره بأثره قال:

 

الأعمـــال صور قائمــة، و أرواحها وجود سر الإخـــلاص فيــها

الأعمال هنا عبارة عن الحركة الجسمانية أو القلبية، و الصور جمع صورة، و هو ما يتشخص في الذهن من الكيفيات، و الروح، السر المودع في الحيوانات، و هو هنا عبارة عما يقع به الكمال المعتبر في الأعمال و الإخلاص إفراد القلب لعبادة الرب، و سره لبه، و هو الصدق المعبر عنه بالتبري من الحول و القوة، إذ لا يتم إلا به، و إن صح دونه، إذ الإخلاص نفي الرياء و الشرك الخفي، و سره نفي العجب و ملاحظة النفس، و الرياء قادحه في صحة العمل، و العجب قادحه في كماله فقط .

   قلــت: الأعمال كلها أشباح و أجساد، و أرواحها وجود الإخلاص فيها، فكما لا وجود للأشباح إلا بالأرواح، و إلا كانت ميتة ساقطة، كذلك لا قيام للأعمال البدنية و القلبية إلا بوجود الإخلاص فيها و إلا كانت صورا قائمة و أشباحا خاوية لا عبرة بها..

  قال تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) الزمر/2 و قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) البينة/5 .. و قال صلى الله عليه و سلم حاكيا عن ربه سبحانه :" أنا أغنى الشركاء، من أشرك معي غيري تركته و شريكه " و قال صلى الله عليه و سلم: " أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، و هو الرياء "

   و جاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الإخلاص، فقال حتى أسأل جبريل، فلما سأله قال حتى أسأل رب العزة، فلما سأله قال له: " هو سر من أسراري أودعه في قلب من أحببت من عبادي، لا يطلع عليه ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده " قال بعضهم هو مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.

   و الإخلاص على ثلاث درجات، درجات العوام و الخواص و خواص الخواص.

   فإخلاص العوام هو إخراج الخلق من معاملة الحق، مع طلب الحظوظ الدنيوية و الأخروية، كحظ البدن و المال و سعة الرزق، و القصور و الحور...

   و إخلاص الخواص طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية.

   أما إخلاص خواص الخواص، إخراج الحظوظ بالكلية، فعبادتهم تحقيق العبودية و القيام بوظائف الربوبية، أو محبة و شوقا إلى رؤيته كما قال ابن الفارض:

ليس سؤلي من الجنان نعيما
 

غير أني أحبها لأراكـــا
  

و قال آخر:

كلهم يعبدون من خوف نـار
 

و يرون النجاة حظا  جزيـلا
  

أو بأن يسكنوا الجنان فيضحوا
 

في رياض و يشربوا السلسبيلا
  

ليس لي في الجنان و النار رأي
 

أنا لا أبتغي بحبي بديـــلا
  

    قال الشيخ أبو طالب رضي الله عنه: الإخلاص عند المخلصين إخراج الخلق من معاملة الحق، و أول الخلق النفس، و الإخلاص عند المحبين ألا يعملوا عملا لأجل النفس و إلا طلع عليها مطالبة العوض، أو الميل إلى حظ النفس، و الإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأعمال و عدم السكون، و الاستراحة إليهم في الأحوال، و قال بعض المشايخ: صحـح عملك بالإخلاص، و صحح إخلاصك بالتبري من الحول و القوة اهـ.

و قال بعض العارفين: لا يتحقق بالإخلاص حتى يسقط من عين الناس و يسقط الناس من عينه، و لذلك قال آخر: كلما سقطت من عين الخلق عظمت في عين الحق، و كلما عظمت في عين الخلق سقطت في عين الحق، يعني مع ملاحظاتهم و مراقباتهم، و سمعت شيخنا يقول: ما دام العبد يراقب الناس و يهابهم لا يتحقق إخلاصه أبدا، و قال أيضا: لا تجتمع مراقبة الحق مع مراقبة الخلق أبدا، إذ محال أن تشهده و تشهد معه سواه اهـ ..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire