أنار الظواهر بأنوار آثاره، و أنار السرائر بأنوار أوصافه، لأجل ذلك أفلت أنوار الظواهر و لم تأفل أنوار السرائر، و لذلك قيل: إن شمــس النهــار تغــرب بليــــــل و شمــس القلـوب ليسـت تغيــب

أنــار الظواهر بأنوار آثــاره، و أنــار السـرائر بأنوار أوصافــه

قلـت: أنوار الظواهر هي ما ظهر على تجليات الأكوان من تأثير قدرته و إبداع حكمته، كتزيين السماء بالكواكب و القمر و الشمس و ما فيها من إبداع الصنع و تمام الإتقان، و كتزيين الأرض بالأزهار و الثمار و النبات و سائر الفواكه، و كتزيين الإنسان بالبصر و السمع و الكلام و سائر ما فيه من عجائب الصنعة قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين/4 و قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا) الكهف/7، فهذه أنوار الظواهر، و أنوار الأوصاف هي العلوم و المعارف و الأسرار، و المراد بالوصاف أوصاف الربوبية كالعظمة و العزة و الجلال و الجمال و الكبرياء و غير ذلك من أوصاف الذات العلية، و الذات لا تفارق الصفات..

فإذا أشرقت السرائر بأنوار معرفة الصفات، فقد أشرقت بأنوار معرفة الذات للتلازم الذي بين الصفات و الذات، ثم الناس في شهود هذه الأنوار الباطنة التي هي أنوار الأوصاف على ثلاثة أقسام:

قسم يشهدونها على البعد و هم أهل مقام الإسلام، و قسم يشهدونها على القرب و هم أهل المراقبة من مقام الإيمان، و قسم يشهدونها على الاتصال، و هم أهل المعرفة من مقام الإحسان..

فأهل الإسلام أنوارهم ضعيفة كأنوار النجوم، و أهل مقام الإيمان أنوارهم متوسطة كنور القمر، و أهل مقام الإحسان، أنوارهم ساطعة كأنوار الشمس، فتحصل أن أنوار الباطن ثلاثة:

نجوم الإسلام، و قمر التوحيد، و شمس المعرفة و إلى هذا المعنى أشار بن الفارض بقوله:

لها البدر كأس و هي شمس يديرهــا *** هـلال و كم يبدو إذا مزجت نجـــم

فالضمير لخمرة المحبة، و هي أيضا شمس المعرفة، فإذا مزجت لتشرب ظهر نجم الإسلام، و إذا وضعت في الكأس طلع قمر التوحيد، و هو الإيمـان، و إذا شربت أشرقت شمس المعرفة، و الذي يديرها على الشاربين هلال، هذا معنى كلامه في الجملة، و تشبيه الأنوار المعنوية بالأنوار الحسية إنما هو تقريب و إلا فأنوار القلوب كلها عظيمة حتى قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: لو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق ما بين السماء و الأرض، فما ظنك بنور المؤمن المطيع، و قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: لو كشف عن حقيقة الولي لعبد دون الله، و قال في لطائف المنن: و لو كشف الحق عن مشرقات أنوار أوليائه لانطوى الشمس و القمر في مشرقات أنوار قلوبهم، و أين نور الشمس و القمر من أنوارهم، و الشمس و القمر يطرأ عليهم الكسوف و الغروب، و أنوار قلوب أوليائه لا كسوف لها و لا غروب لذلك قال قائلهم:

هذه الشمس قابلتنا بنور

و لشمس اليقين أبهر نور

فرأينا بهذه النور لكـن

بهاتيك قد رأينا المنـيرا

فأنار الحق سبحانه ظواهر الكائنات بأنوار الظواهر، و هي النجوم و القمر و الشمس في الحسن و تزيين الخلق و إبداعه و تخصيصه و تقييده عن شكل معلوم في الأنوار الخفية و تهذيب الجوارح، و تطهيرها من الأنوار المعنوية، و أنار سبحانه القلوب و السرائر بأنوار أوصافه، و هي عظمة الربوبية، و أوصافها إذا أشرقت في القلوب الصحية و الأسرار الصافية، غاب العبد عن شهود الأغيار، و غرق في بحر الأنوار، فتفنى الأشكال و الرسوم و لا يبقى إلا الحي القيوم..

ثم ذكر الفرق بين أنوار الظواهر و أنوار السرائر فقــال:

 

لأجل ذلك أفَلَت أنوار الظواهــر و لم تأفــل أنوار القلوب و السرائــر

أي لأجل أن أنوار الظواهر إنما هي أنوار الأثر، و من شأن الأثر أن يتأثر و يتغير بالطلوع و الغروب، فأفلت، أي غربت أنوار الظواهر، إما بالغروب المعلوم أو بالعدم المحتوم، و لم تأفل أي تغرب أنوار القلوب، و هي أنوار الإسلام و الإيمان، و أنوار السرائر و هي أنوار الإحسان، فأنوار الإسلام و الإيمان هي أنوار التوجه، و أنوار الإحسان هي أنوار المواجهة، فالنور عبارة عن اليقين الذي يحصل في القلب يثمر حلاوة العمل، فإذا قوي اليقين قوي النور، و اشتدت الحلاوة حتى يتصل بحلاوة الشهود، فيغطي حلاوة العمل، و لذلك يقل عمل الجوارح عند العارف، إذ حلاوة الشهود تغني عن كل شيء، و ليس الخبر كالعيان..

و في بعض الأحاديث سئل رسول صلى الله عليه و سلم أي الأعمال أفضل قال: العلم بالله، قالوا يا رسول الله سألناك عن العمل، قال: العلم بالله، ثم قال في الثالثة، عمل قليل كاف مع العلم بالله..

و حقيقة النور في الأصل كيفية تنبسط من النيرين على سطح الجسم، فينكشف ما عليه بواسطة البصر، ثم شبه به العلم و اليقين و المعرفة، لما بينهم من الشبه في كشف حقيقة الأشياء و تمييزها، فالنور الحسي ينقطع بانقطاع أصله، و النور المعنوي الذي هو نور القلوب لا ينقطع أبدا، فلذلك أنشد الشيخ هذا البيت فقاله، و لذلك قيل:

إن شمس النهار تغــرب بليـــل *** و شمــس القلـوب ليســت تغيـــب

و ليس من عند المؤلف بل هو لغيره، و سيأتي في المناجاة بتمامه إن شاء الله، قال الشيخ زروق رضي الله عنه: فشمس القلوب لا تغيب أبدا، بل هي دائمة لا تنقطع، و باقية لا تنصرم لبقاء مددها، و هي معاني الأوصاف الربانية و دوام محالها .. و هي الآفاق الروحانية، فالمتعلق بها متعلق بحقيقة لا تنصرم، و من هذا الوجه كان غنى القوم بالله لا بالأسباب، و تعلقهم به لا شيء دونه/.

و هذا آخر الباب العاشر، و حاصلها، ذكر كيفية الجزاء على العمل و الزجر على طلبه و تحقيق معرفته في عطائه و منعه، و الاعتناء بإقباله و قبوله لا بخدمته، و دوام الاضطرار بين يديه و الافتقار إلى نعمته، و الاستيحاش من خلقه بدوام أنسه، ثم إشراق أنواره على قلوب أوليائه و أسرار أصفيائه جزاء لإقبالهم عليه و انحياشهم إليه، فإذا أتحفهم بذلك و هيأهم لما هناك تلى عليهم قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم) البقرة214، كما سيأتي في مستهل الباب الحادي عشر بإذن الله..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire