متى أوحشك من خلقه فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به، و متى أطلق لسانك بالطلب فاعلم أنه يريد أن يعطيك، و العارف لا يزول اضطراره و لا يكون مع غير الله قراره.

متــى أوحشك من خلقه، فاعلـم أنه يريد أن يفتح لـك باب الأنــس بــه

قلـت: هذه سنة الله تعالى في خلقه، إذا أراد أن يؤنس عبده بذكره و يتحفه بمعرفته أوحشه من خلقه و شغله بخدمته، و ألهمه ذكره، حتى إذا امتلأ قلبه بالأنوار و تمكن من حلاوة الشهود و الاستبصار، رده إليهم رحمة لهم، لأنه حينئذ لقوته يأخذ منهم، و لا يأخذون منه، و مثاله في الحس كفتيلة شعلتها، فما دامت ضعيفة لا بد أن تحفظها من الريح، و تقصد بها المواضع الخفية، فإذا اشتد نورها و أشعلتها في الحطب صعدت بها إلى ظهور الجبال، فبقدر ما يصيبها الريح يعظم اشتعالها، كذلك الفقير، ما دام في البداية، لا يليق به إلا الوحشة من الخلق و الفرار منهم، فإذا تمكن في الشهود، فلا يليق به حينئذ إلا الخلطة معهم، لأنهم لا يضرونه، فمتى أوحشك أيها الفقير من خلقه، و عزلك عنهم في قلبك، فاعلم أنه تعالى أراد أن يؤنسك به و يغنيك بمعرفته..

فقد كان صلى الله عليه و سلم حين قرب أوان النبوة و الرسالة حبب إليه الخلوة، فكان يخلو بغار حراء، و حكمة ذلك تصفية البواطن من الشواغل، لتتهيأ لقبول ما تتحمله من الأسرار و المواهب، فإذا تطهر من الأكدار مليء بالأنوار، و أشرقت فيه شموس العرفان، و تمكن من حضرة الشهود و العيان، فهذه سنة الله في أوليائه و أصفيائه، يفرون أولا من الناس حتى يحصل لهم منهم الإياس، ثم يردهم الحق إليهم رغما على أنفهم لمقام الدلالة و الإرشاد، فينتفع بهم العباد، و تحيى بوجودهم البلاد و في مثلهم قال القائل:

تحيا بكم كل أرض تنزلون به

كأنكم في بقاع الأرض أمطـار

و تشتهي العين فيكم منظرا حسنا

كأنكم في عيون الناس أزهـار

و نوركم يهتدي الساري برؤيته

كأنكم في ظلام الليل أقمــار

لا أوحش الله ربعا من زيارتكم

يا من لهم في الحشا و القلب تذكار

نفعنا الله بهم و حققنا بمعرفته آميــن، ثم إذا فتح لك باب الأنس، و تشوقت إلى حضرة القدس، ثم أطلق لسانك بطلبها، فاعلم أنه يريد أن يفتح لك بابها كما أشار إلى ذلك بقولـه:

 

متــى أطلـق لسـانك بالطلب فاعلـم أنه يريد أن يعطيــك

قلــت: لأن الحق تعالى جعل الطلب سببا من الأسباب، فإذا أراد أن ينجز للعبد ما سبق له، فتح له باب الطلب، فإذا حصل منه الطلب، حصل ذلك الذي قسم له في الأزل إظهارا لحكمته، و إخفاء لقدرته، و تغطية لسره، فالدعاء من جملة الأسباب العادية كالحرث و الدواء و التزويج في الولد و غير ذلك..

و كل ذلك سبقت به المشيئة و نفذ به القضاء و القدر، فما بقي الدعاء إلا إظهارا للفاقة و إبقاء لرسم العبودية، لا طلبا لما لم يكن، جل حكم الأزل أن يضاف للأسبـاب و العلل، فمتى أطلق لسانك أيها المريد بالطلب لشيء تجلى في قلبك، أو احتجت إليه، فاعلم أن الحق تعالى أراد أن يعطيك ما طلبت منه، فلا تحرص و لا تستعجل، فكل شيء عنده بمقدار، فإن أطلق لسانك في الدعاء من غير سبب، فخير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة " و قال صلى الله عليه و سلم: " من أذن له في الدعاء منكم فقد فتحت له أبواب الرحمة، و ما سئل الله شيئا أحب إليه من العفو و العافية "

و قال الكتاني رضي الله عنه: لم يفتح الله لسان المؤمن بالمعذرة إلا و قد فتح له بالمغفرة /..

و قال الخفاف رحمه الله: و كيف لا يجيبه و هو يحب صوته، و لولا ذاك ما منح الدعاء، و في ذلك قيــل:

لو لم تـرد نيل ما أرجو و أطلبـه *** من فيض جودك مـا علمتنـي الطلبــا

ثم هذا كله قبل فتح باب المعرفة، و إذا فتح لك الباب، فلا تحتاج إلى طلب لغناك بمسبب الأسباب، فيكون دعاؤك إنما إظهار للفاقة و الاضطرار اللازمين لك مع كل نفس و في كل وقت و حال..

 

العارف لا يزول اضطراره و لا يكون مع غير الله قراره

قلـت: أما وجه كونه لا يزول اضطراره، فلتحقق قيومية الحق به، إذ الحس لا يقوم إلا بالمعنى، فحس العبودية لا يقوم إلا بمعنى الربوبية، فبحق تحقق العبد بقيومية الربوبية يشتد اضطراره إلى ظاهر العبودية، و أيضا العارف لا يزال في الترقي، فهو متعطش للزيادة على الدوام، قال النقشبندي رحمه الله:

و ذو الصبابة لو يسقـى على عدد الأنفــــــاس و الكون كاس ليس يسقيـــه

و قال آخـر:

سقاني الحب كأسـا بعـد كـأس *** فما نفـذ الشـراب و لا رويـت

و قال بعضهم: لو شربت في كل لحظة ألف بحر لا ترى ذلك إلا قليلا، و تشهد شفتيك يابسة، و كل ذلك كناية عن عدم النهاية، و إن المقصود غير منضبط، و العارف لا يزال مفتقرا للزيادة على الدوام، فلا يزول اضطراره على الدوام، و قال تعالى لسيد العارفين:( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه114، و الاضطرار إلى زيادة العلم لا ينقطع، و لو جمع علوم أهل السماوات و الأرض قال تعالى مخاطبا للكل: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) الإسراء 85..

و أما وجه كونه لا يكون مع غير الله قراره، فلأن قلب العارف رحل إلى الله من الكون بأسره، فلم تبق له حاجة إلى غيره، فقراره إنما هو شهود الذات الأقدس، فإن نزل إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ، فبالإذن و التمكين و الرسوخ في اليقين، فالعارف ليس له عن نفسه أخبار، و لا له مع غير الله قرار، و أيضا سابق العناية لا يتركه يركن إلى غير مولاه، فمهما ركن قلبه إلى شيء شوشته عليه العناية، و اكتنفته الرعاية، فهو محفوظ من الأغيار، محفوف من كل جهة بمدد الأنوار، إذا كان الله حرس السماء من استراق السمع، فكيف لا يحرس قلوب أوليائه من الأغيار و ما تولاهم بمحبته حتى حفظهم من شهود غيره، فكيف بالركون فكيف بالسكون، هيهات هيهات، هذا لا يكون، من كان ظاهره محفوظا بالأنوار و باطنه محشوا بالأسرار، فكيف يركن إلى شهود الأغيار، كما أبان ذلك بقولـه:

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire