العطاء من الخلق حرمان و المنع من الله إحسان.

قلـت: إنما كان العطاء من الخلق حرمانا لثلاثة أوجه:

الوجه الأول: ما في ذلك من حظها و فرحها، و التوصل إلى شهواتها و حظوظها و في ذلك موت القلب و قسوته..

الوجه الثاني: ما في ذلك من نقص الدرجات، و الغض عن كمال المراتب و المقامات، و لذلك ترك الأكابر التمتع بالشهوات لقوله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) الأحقاف20، و قد يتعرض المريد للسؤال لأجل موت نفسه، و حياة روحه، فإذا كثر عليه العطاء من الخلق فرحت النفس و آنست، فلا تموت به سريعا بخلاف ما إذا واجهه المنع، فإنها تموت سريعا إذ لا حظ لها فيه، فالجهاد الذي لا غنيمة فيه أعظم من الجهاد الذي فيه الغنيمة، فقد ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: "إذا خرجت طائفة للغزو فجاهدوا و غنموا فقد تعجلوا ثلثي أجرهم فإن لم يغنموا رجعوا بأجرهم كاملا" أو كما قال صلى الله عليه و سلم..

الوجه الثالث: ما في ذلك من الركون إليهم و ميل القلب بالمحبة لهم إن النفس مجبولة إلى حب من أحن إليها، فتسترق لهم، و تكون أسيرة في أيديهم، و في وصية عن سيدنا علي كرم الله وجهه، لا تجعل بينك و بين الله منعما، و عدّ نعمة غيره لك مغرما، و أنشد رضي الله عنه يقول:

لعمرك من وليـته منـك نعمـة

و مد لها كفا فأنت أمـيره

و من كنت محتاجا إليه فإنــــه

أميرك تحقيقا و أنت أسيره

و من كنت عنه ذا غنى و هو مالك

أزمة أهل الدهر أنت نظيره

فعش قانعا إن القناعة للفــــتى

غناء و هذا مقتضى ما أشيره

وقال آخــر:

فلا ألبس النعما و غيرك ملبسي

و لا أملك الدنيا و غيرك واهبي

و قال شيخ شيوخنا: و مادة طريقنا بعد نبينا عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام، ما قاله شيخنا مولاي عبد السلام بن مشيش لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عن الجميع: يا أبا الحســن، اهرب من خير الناس أكثر من أن تهرب من شرهم، فإن خيرهم يصيبك في قلبك و شرهم يصيبك في بدنك، و لأن تصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك، و لعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك/.

و قال بعضهم: عز النزاهة أكمل من سرور الفائدة، و لأجل هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إذا أسدى إليكم أحد معروفا فكافئوه..." أي لتسقطوا رقبته لكم و الله تعالى أعلم..

و إنما كان المنع من الله إحسانا لوجهيــن:

أحدهما: ما تقدم من أن الله سبحانه و تعالى ما منعك بخلا و لا عجزا، و إنما هو حسن نظر لك، إذ لعل ما طلبته لا يليق بحالك في الوقت، و أخره لوقت هو أولى لك و أحسن، أو ادخر لك ذلك ليوم فقرك..

الثانـي: ما في ذلك من دوام الوقوف ببابه و اللياذ بجنابه، و في ذلك غاية شرفك و رفع لقدرك، و في الحديث إذا دعا العبد الصالح يقول الله تعالى للملائكة: أخروا حاجته فإني أحب أن أسمع صوته، و إذا دعا الفاجر، قال للملائكة اقضوا حاجته فإني أكره صوته، أو كما قال عليه السلام لطول العهد به..

تنبيــه: ما ذكره الشيخ من كون العطاء من الخلق حرمانا، إنما هو باعتبار السائرين، أو باعتبار الزهاد و العباد، و أما الواصلون إلى الله يأخذون من الله و يدفعون بالله و لا يرون في الوجود إلا الله.

مــذ عرفـت الإلـه لم أر غيـره

و كذا الغير عندنا ممنــــوع

مذ تجمعت ما خشيت افتراقــــا

فأنا اليوم واصل مجمــــوع

فلا يرون العطاء إلا من الله، و لا يرون الخلق البتة، إلا ما يشهدون فيهم من واسطة الحكمة كما قال القائــل:

إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا

رأيت جميع الكائنات ملاحا

و بالله التوفيق و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire