الطي الحقيقي أن تطوى مسافة الدنيا عنك حتى ترى الآخرة أقرب إليك منك.

قلـت: الطي هو اللف و الضم بحيث يصير الطويل قصيرا و الكبير صغيرا، يقال طويت الثوب أي ضممته، و ينقسم عند الصوفية إلى أربعة أقسام: طي الزمان و طي المكان و طي الدنيا و طي النفوس..

فأما طي الزمان فهو أن يقصر في موضع، و يطول إلى موضع آخر كمن مر عليه سنين في موضع و في موضع آخر ساعة أو يوم، كمثل الرجل الذي خرج يغتسل في الفرات يوم الجمعة قرب الزوال، فلما فرغ من غسله لم يجد ثيابه، فسلك طريق حتى دخل مصر، فتزوج فيها و ولد له أولاد، و بقي سبع سنين، ثم ذهب يغتسل يوم الجمعة بنيل مصر، فلما فرغ إذا ثيابه الأولى فسلك طريقا، فإذا هو ببغداد قبل صلاة الجمعة من ذلك اليوم الذي خرج فيه، و الحكاية مطولة للفرغاني في شرح التائية..

و أما طـي المكان، فمثاله أن يكون بمكة، فإذا هو بغيرها من البلدان، و هذا مشهور لأولياء الله، قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: و الله ما صار الأولياء من قاف إلى قاف حتى يلقوا رجلا مثلنا، فإذا لقوه كان بغيتهم..

و أما طي الدنيا فهو أن تطوى عنك مسافتها بالزهد فيها و الغيبة عنها و حصول اليقين التام في ذلك، حتى يكون الآتي عندك واقعا، أو كالواقع، و سيأتي للشيخ، لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترجل إليها، و لرأيت الدنيا و كسفة الفناء ظاهرة عليها، و سيأتي الكلام على هذه الحكمة إن شاء الله..

و أما طي النفوس، فهو في الغيبة في الله عنها و لذلك يتحقق الزوال و تمام الوصال، و قد ذكره الشيخ بقوله فيما يلي: ليس الشأن أن تطوى لك الأرض، فإذا أنت بمكة أو بغيرها من البلدان، إنما الشأن أن تطوى عنك أوصاف نفسك، فإذا أنت عند ربــك..

و هذا هو الطي الحقيقي المعتبر عند المحققين لا طي الزمان و لا طي المكان، إذ قد يكون استدراجا أو مكرا، أو تخيلا أو سحرا، فالطي الحقيقي هو أن تطوى عنك مسافة الدنيا كلها حتى يكون الموت أقرب إليك من نفسك التي بين جنبيك، و كما قال الصديق رضي الله عنه:

كل امرئ مصبح في أهله

و الموت أدنى من شراك نعله

و حتى ترحل عنها بالكلية، فلا تبقى فيك منها بقية، هناك ترحل إلى عالم الملكوت، و تكشف لك أسرار الجبروت و قد قيل في قوله عليه السلام: الدنيــا خطوة المؤمن، بمعنى أنه يتخطاها بالزهد فيها، و قال بعضهم: لا تتعجبوا ممن يدخل يده في جيبه فيخرج ما يريد، و لكن تعجبوا ممن يدخل يده في جيبه و لم يجد شيئــا، و لم يتغيـر، و قيــل لأبي محمد المرتعش: إن فلانا يمشي على الماء، قال عندي، من مكنه الله من مخالفة هواه، أعظم من المشي على الماء و في الهواء/.

و مخالفة الهوى إنما تكون بالزهد في كل شيء، و الغيبة عن كل شيء، و كان شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول: لا تفرحوا للفقير إذا رأيتموه يصلي كثيرا أو يذكر كثيرا أو يصوم كثيرا أو يعتزل كثيرا، حتى تروه زهد في الدنيا و رحل عنها، و لم يبق له التفات إليها، فحينئذ يفرح به و لو قلت صلاته و صيامه و ذكره و عزلته..

قلــت: و مثل هذا تقدم في قوله: ما قل عمل برز من قلب زاهد، كذلك قال في التنوير، لا تدل على فهم العبد كثرة علمه، و لا مداومته على ورده، و إنما يدل على نوره و فهمه غناه بربه، وانحياشه إليه بقلبه، و تحرره من رق الطمع و تحليه بحلية الورع، و بذلك تحسن الأعمال و تزكو الأحوال..

فما قاله شيخ شيخنا صحيح، لكن لا يفهمه إلا أهل الفن من أهل الذوق، إذ لا تجتمع مجاهدة و مشاهدة، و إنما تكون المجاهدة أولا، فإذا حصلت المشاهدة في الباطن ركدت الجوارح في الظاهر و ما بقي إلا فكرة أو نظرة و الأدب مع الحضرة، و ربما يعترض على الشيخ من لم يعرف مقصوده من جهلة علم الطريق و بالله التوفيق..

و إنما يتحقق طي مسافة الدنيا بتحقق الزهد فيها، و لا يتحقق الزهد فيها إلا برفع الهمة عن الخلق و التعلق بالملك الحق، و بالإياس مما في أيدي الناس كما أبان ذلك بقولــه:

 

العطاء من الخلق حرمان، و المنع من الله إحسان

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire