إن أردت أن يكون لك عزا لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى.

قلــت: العز الذي لا يفنى هو العز بالله، و الغنى بطاعة الله، أو بالقرب ممن تحقق عزه بالله، فالعز بالله يكون بتعظيمه و إجلاله و هيبته و محبته و معرفته و حسن الأدب معه في كل شيء، و على كل حال، و يكون بالرضى بأحكامه و الخضوع تحت قهر جلاله و كبريائه، و بالحياء و الخوف منه، و يكون بالذل و الانكسار كما قال الشاعــر:

تذلل لمن تهوى لتكسب عـــزه

فكم عزة نالها المرء بالــذل

إذا كان من تهوى عزيزا و لم تكن

ذليلا فاقرأ السلام على الوصل

و سمعت شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول: قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: و الله ما رأيت العز إلا في الذل، و قال شيخ شيخنا مولاي العربي: و أنا أقول و الله ما رأيت الذل إلا في الفقر، يعنـي أن الشيخ فسر الذل بالفقر، إذ لا يتحقق ذل الإنسان إلا بالفقر، فهو ذل الذل، لأن النفس تموت بالفقر، و لا يبقى لها عرق أصلا، و الله تعالى أعلم..

و أما العز بطاعة الله فهو بالمبادرة لامتثال أمره و اجتناب نهيه و الإكثار من ذكره و بذل المجهود في تحصيل بره، و أما العز بالقرب ممن تحقق عزه بالله، فيكون بصحبتهم و تعظيمهم و خدمتهم، و حسن الأدب معهم، و هذا في التحقيق يرجع إلى التعزز بالله لكونه وسيلة إليه، فإذا تحقق عزه بالله استغنى بعز الله عن عز غيره، فمن حصل له هذا العز و تحقق به فقد تعزز بعز لا يفنى أبدا، ينسحب عليه و على أولاده، و أولاد أولاده إلى يوم القيامة، قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) فاطر 10، و قال تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) المائدة56، و المراد بالذين آمنوا هم الأولياء، أهل الإيمان الكامل، و قال تعالى:( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) المنافقون 8، و قال سيدنا علي كرم الله وجهه: من أراد الغنى بغير مال و الكثرة بغير عشيرة فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة..

فمن تحقق عزه بالله لم يقدر أحد أن يذله، و انظر قضية الرجل الذي أمر هارون الرشيد بالمعروف فحنق عليه و قال اربطوه مع بغلة سيئة الخلق لتفتله، فلم تقض فيه شيء، ثم قال اسجنوه و طينوا عليه البيت ففعلوا، فرأي في بستان، فأتى به فقال، من أخرجك من السجن؟ فقال الذي أدخلني البستان، فقال و من أدخلك البستان؟ قال الذي أخرجني من السجن، فعلم هارون أنه لم يقدر على ذله، فأمر أن يركب على دابة و ينادى عليه: ألا إن هارون أراد أن يذل عبدا أعزه الله فلم يقدر /..

و أما التعزز بالعز الذي يفنى فهو التعزز بالمخلوق كتعزز ملوك الجور و من انتسب إليهم بكثرة الأتباع و الأجناد، و بالعصا و القهر، و كالتعزز بالأموال و الجاه في غير محلة، و الرياسة و غير ذلك مما يقطع و يبيد، فمن تعزز بهذا مات عزه و اتصل ذله، فإن التعزز بالمخلوق قطعا يعقبه الذل عاجلا أو آجلا، و انظر قضية الرجل الذي تكبر في الحرم فصار بعد ذلك يتكفف الناس و قال: إني تكبرت في موضع يتواضع فيه الناس، فوضعني في موضع يرتفع فيه الناس ذكر القضيتين في التنبيه، و يقال لمن تعزز بالمخلوق: (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) طه/97..

و دخل أحد يبكي على عارف فقال له و ما يبكيك؟ فقال له، مات أستاذي فقال له: و لم جعلت أستاذك من يموت، فنبهه على رفع همته و إنفاذ بصيرته، و قد مات شيخه قبل أن يرشد، و الله تعالى أعلــم..

فإن أردت أيها المريد أن يكون لك عز لا يفنى فاستعز بالله و بطاعة الله، و بالقرب من أولياء الله، و لا تستعزن بعز مخلوق يفنى، لأن من تعزز بمن يموت مات عزه، قال تعالــى: (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا)النساء139، و قال أبو العباس المرسي رضي الله عنه: و الله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق ..

تنبيه و إرشــاد: اعلم أن سبب العز الذي يعطيه الله لأوليائه هو حبه لهم، فالعز نتيجة الحب، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: " إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السموات إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض فيحبه أهل الأرض" و في رواية يلقى له القبول في الماء فيشربه الناس فيحبونه جميعا، أو كما قال عليه السلام، و سبب حب الله للعبد زهده في الدنيا، ففي حديث الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: " ازهد في الدنيا يحبك الله و ازهد فيما في يد الناس يحبك الناس".

ثم اعلم أن هذا العز الذي يعطيه الله لأوليائه لا يكون في بدايتهم و لا في أول أمرهم لئلا يفتنهم الخلق عن الوصول إلى الحق، بل من لطف الله بهم و إغارته عليهم أن ينفر عنهم الخلق، أو يسلط عليهم حتى يتخلصوا من رق الأشياء و يتحققوا بالوصول و التمكين، فحينئد إن شاء أظهر عزهم لينفع بهم عباده، و يهدي بهم من شاء من خلقه، و إن شاء أخفاهم و استأثر بعزهم حتى يقدموا عليه، فينشر عزهم و يظهر مكانتهم في دار لا فناء لها، و سيأتي الكلام على هذا في محله إن شاء الله.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire