الأكوان ظاهرها غرة، و باطنها عبرة، فالنفس تنظر إلى ظاهر غرتها، و القلب ينظر إلى باطن عبرتها.

الأكــوان ظاهرها غِــّرة، و باطنهــا عبــرة

   قلــت: الغرة بكسر الغين، وقوع الغرور، و إنما كانت الأكوان ظاهرها غرة لوجهين، أحدهما ما جعل الله سبحانه على ظاهر حسها من البهجة و حسن المنظر، و ما تشتهيه النفوس من أنواع المآكل و المشارب و الملابس و المراكب و شهوة المناكح و المساكن و البساتين و الرياضات، و كثرة الأموال و البنين، و كثرة الأصحاب و العشائر، و الأجناد و العساكر، و غير ذلك من بهجتها و زهرتها و زخرفها، فانكب جل الناس على الاشتغال بجمعها و تحصيلها، و الجري عليها الليل و النهار، و الشهور و الأعوام، حتى هجم عليهم هادم اللذات، فأعقبهم الندم و الحسرات، و لم ينفع الندم و قد جف القلم، سافروا بلا زاد، و قدموا على الملك بلا تأهب و لا استعداد، فاستوجبوا من الله الطرد و البعاد، و لأجل هذا حذر الله سبحانه من غرورها و زخرفها، و الوقوف مع ظاهرها قال تعالى:( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) آل عمران 14، ثم قال تعالـى:( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) آل عمران 15، و قال تعالـى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الكهف7، أي لنختبرهم أيهم أزهد فيها، و قال تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) طه/131..

   و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أولياء الله الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، فقال: "الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتموا بآجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، و تركوا منها ما علموا أن يتركهم، فما عارضهم من نائلها عارض إلا رفضوه، و لا خادعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه، خلقت الدنيا في قلوبهم فلم يجددوها و خربت بنيانهم فما يعمرونها، و ماتت في صدورهم فما يحيونها بل يهدمونها، فيبنون بها آخرتهم و يبيعونها ليشتروا بها ما بقي لهم، و نظروا إلى أهلها صرعى قد خلت بهم المثلات، فما يرون أمانا دون ما يرجون، و لا خوفا دون ما يجدون"

   و قال علي كرم الله وجهه، فيما كتبه إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه: إنما مثل الدنيا كمثل الحية، ليّن ملمسها، قاتل سمها، فأعرض عنها و ما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، و دع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، و كن أسرّ ما تكون فيها أحذر ما تكون منها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه ..

   فقد جعل سبحانه هذه الأكوان، و هي الدنيا و ما اشتملت عليه، ظاهرها فتنة، و باطنها عبرة، فمن وقف مع ظاهرها كان مغرورا، و من نفذ إلى باطنها كان عند الله مبرورا، فأهل الغفلة و البطالة وقفوا على متعة عاجلها، و بهجة ظاهرها، فغرتهم بزخرفها، و خدعتهم بغرورها حتى أخذتهم بغتة، و أهل اليقظة و الحزم نفذوا إلى باطنها فعرفوا سرعة ذهابها و قلة بقائها، فاشتغلوا بجمع الزاد و تأهبوا ليوم المعاد، أولئك الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و كان السلف الصالح إذا أقبلت الدنيا قالوا: ذنب عجلت عقوبته، و إذا أقبل الفقر قالوا: مرحبا بشعار الصالحين.

   الوجــه الثاني: إنما جعل الله تعالى الأكوان ظاهرها غرة تغطية لسره، و إظهار لحكمته، و ذلك أن الحق سبحانه لما تجلى في مظاهر خلقه غطى سره بمظاهر حكمته..

   أو تقول: الأكوان ظاهرها ظلمة و باطنها نور، فمن وقف مع الظلمة كان محجوبا، و من نفذ إلى شهود النور كان عارفا محبوبا..

   أو تقول: الأكوان ظاهرها حس و باطنها معنى، فمن وقف مع الحس كان جاهلا و من نفذ إلى المعنى كان عارفا.

   أو تقول: الأكوان ظاهرها ملك، و باطنها ملكوت، فمن وقف مع الملك كان من عوام أهل اليمين، و من نفذ إلى شهود الملكوت كان من خواص المقربين، و قد أشرت إلى ذلك في قصيدتي التائية بما يلي:

إذا حبست نفس في سجن الهوى الذي
 

تقيد به العقل في قهر قبضــة
  

و أشغلها علم الصوان لحكمــــة
 

فلم تر إلا الكون في كل وجهة
  

فذلك عين الملك و هم ثبوتــــه
 

و ناظره محجوب في سجن ظلمة
  

و إن نفذت روح المقدس ســـره
 

إلى درك نور الحق فاض بقـدرة
  

فذت ملكوت الله يسمى  لوسعــه
 

و عارفه يحظى بفتح بصيـــرة
  

 

   ثم بين الشيــخ، الواقف مع الظاهر، و النافذ إلى البواطن فقــال:

فالنفــس تنظر إلى ظاهـر غِرتهـا و القلب ينظر إلى باطن عبرتهـا

   قلــت: إنما كانت النفس تنظر عبرتها إلى ظاهر غرتها لما فيها من متعة شهوتها و حظوظها، فلا يخرجها من ذلك إلا شوق مقلق أو خوف مزعج أو عناية ربانية، إما بواسطة شيخ كامل أو إكسير يقلب به الأعيان، أو بغير واسطة و الله ذو الفضل العظيم، و إنما كان القلب ينظر إلى باطن عبرتها لما فيه من نور العرفان الذي يفرق بين الحق و الباطل، و يميز بين النافع و الضار، و هو ثمرة التقوى و التصفية..

أو تقـول: لما فيه من عين البصيرة التي لا ترى إلا المعاني بخلاف عين البصر الذي لا ترى إلا الحس، فتحصــل أن أهل النفوس وقفوا مع ظواهر الأشياء و اغتروا بعاجلها و لم يهتموا بأجلها، فحجبوا عن العمل و غرتهم الأماني و طول الأمل، و في مثلهم ورد الخبر عن سيدنا عيسى عليه السلام كان يقول: ويلكم علماء السوء مثلكم كمثل قثاة حش، ظاهرها جص و باطنها نتن.. و الحش هو بيت الخلاء..

 و أهل القلوب لم يقفوا مع ظواهر الأشياء، بل نفذوا إلى بوطنها و اهتموا بآجالها، و لم يغتروا بعاجلها، فاشتغلوا بالجد و الاجتهاد، و أخذوا في الأهبة و الاستعداد و هم العباد و الزهاد، و أهل الأرواح و الأسرار، لم يقفوا مع الأكوان، لا ظاهرها العاجل و لا باطنها الآجل، بل نفذوا إلى نور الملكوت، و اشتغلوا بتطهير القلوب، و التأهب إلى حضرة علام الغيوب، حتى صلحوا للحضرة و تنزهوا في رياض الفكرة و النظرة، أولئك حزب الله، (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، أولئك المقربون في جنات النعيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، جعلنا الله منهم بمنه و كرمه، و هؤلاء و من تعلق بهم هم الأعزاء عند الله، تعززوا بطاعة العزيز فعزهم العزيز..

 

العز الحقيقي بالله

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire