ربما أعطاك فمنعك، و ربما منعك فأعطاك، و متى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع عين العطاء.

ربمــا أعطاك فمنعـك، و ربمـا منعـك فأعطــاك

قلــت: الغالب على النفس الأمارة و اللوامة أن تنبسط بالعطاء و تنقبض بالمنع، لأن في العطاء متعتها و شهوتها، فلا جرم أنها تنبسط بذلك، و في المنع قطع موادها و ترك حظوظها، و لا شك أنها تنقبض بذلك، و ذلك لجهلها بربها و عدم فهمها، فلو فهمت عن الله لعلمت أن المنع عين العطاء و العطاء عين المنع كما يأتي..

فافهم أيها الفقير عن مولاك، و لا تتهمه فيما به أولاك، فربما أعطاك ما تشتهيه النفوس، فمنعك بذلك حضرة القدوس، و ربما منعك ما تشتهيه نفسك، فيتم بذلك حضورك و أنسك..

ربمــا أعطاك متعة الدنيا و زهرتها، و منعك جمال الحضرة و بهجتها.. ربمــا منعك زينة الدنيا و بهجتها، فأعطاك شهود الحضرة و نظرتها..

ربمــا أعطاك قوت الأشباح فمنعك قوت الأرواح، و ربما منعك من قوت الأشباح فمتعك بقوت الأرواح..ربمــا أعطاك إقبال الحق فمنعك من إقبال الحق، و ربما منعك من إقبال الخلق فأعطاك الأنس بالملك الحق.. ربمــا أعطاك العلوم، و فتح لك مخازن الفهوم، فحجبك بذلك عن المعلوم، و معرفة الحي القيوم، و ربما منعك من كثرة العلوم، و أعطاك الأنس بالحي القيوم، فأحطت بكل مجهول و معلوم..

ربمــا أعطاك عز الدنيا و منعك عز الآخرة، و ربما منعك من عز الدنيا و أعطاك عز الآخرة.. ربمــا أعطاك التعزز بالخلق و منعك من التعزز بالحق، و ربما منعك من التعزز بالخلق و أعطاك التعزز بالملك الحق..

ربمــا أعطاك خدمة الكون فمنعك من شهود المكون، و ربما منعك من خدمة الكون و أعطاك شهود المكون..

ربمــا أعطاك التصرف في الملك و منعك دخول الملكوت، فمنعن الترقي إلى بحر الجبروت، و ربما حجب أنوار الملكوت فأعطاك الدخول إلى حضرة الجبروت.. ربمــا أعطاك القطبانية و منعك من التمتع بشهود الفردانية، و ربما منعك القطبانية و متعك بشهود الوحدانية، إلى غير ذلك مما يحصيه إلا علام الغيوب..

قال ابن عربي الحاتمي رضي الله عنه: إذا منعت فذاك عطاؤه، و إذا أعطيت فذاك منعه، فاختر الترك على الأخذ /.

و شاهده قوله تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة/216، فإذا فهمت هذا علمت أن المنع هو العطاء كما ينبه بقوله:

 

متــى فتح لك باب الفهــم في المنع عاد الفهم عيـن العطــاء

قلـت: إذا فهمت أيها العبد عن الله بعد تحققك برحمته و رأفته و كرمه، و جوده و نفوذ قدرته و إحاطة علمه، علمت أنك إذا سألته شيئا، أو هممت بشيء، أو احتجت إلى شيء فمنعك منه، فإنما منعك ذلك رحمة بك و إحسانا إليك، إذ لم يمنعك من بخل و لا عجز و لا جهل و لا غفلة، و إنما ذلك حسن نظره إليك، و إتمام لنعمته عليك، لكونه أتم نظر و أحمد عاقبة، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة/216 .. فربما دبرنا أمرا ظننا أنه لنا، فكان علينا، و ربما أتت الفوائد من وجوه الشدائد، و ربما كمنت المنن في المحن و المحن في المنن، و ربما انتفعنا على يد الأعداء و أوذينا على يد الأحباب، و ربـما تأتي المسار من حيث المضار، و قد تأتي المضار من حيث المسار، و لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه في حزبه:

اللهم إنا عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم.. فمتى فتح لك أيها المريد باب الفهم عنه في المنع، و علمت ما فيه من الشر و الخير و حسن النظر لك، عاد المنع في حقك هو عين العطاء..

و مثال ذلك كصبي رأى طعاما حسنا أو حلوا أو عسلا، و فيه سم و أبوه عالم بما فيه، فكلما بطش الصبي لذلك الطعام رده أبوه، و الصبي يبكي عليه لعدم علمه، و أبوه يرده بالقهر لعلمه بما فيه، فلو عقل الصبي ما فيه ما بطش إليه و لعلم نصح أبيه و شدة رأفته به..

كذلك العبد يبطش للدنيا، أو الرئاسة أو غير ذلك مما فيه ضرر، فيمنعه الحق تعالى رحمة به و شفقة عليه و اعتناء به، فإذا فهم عن الله سلم الأمر إلى مولاه، و لم يتهمه فيما أبرمه و قضاه، و إذا لم يفهم عن الله تحسر و ربما سخط، فإذا اكشف له سر ذلك بعد علم ما كان في ذلك من الخير لكن فاتته درجة الصبر لقوله صلى الله عليه و سلم:" إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، و انظر قضية الرجل الذي كان يسكت في البادية، و كان من العارفين، فاتفق له ذات يوم أن مات حماره و كلبه و ديكه، فأتى إليه أهله فقالوا له: حين مات الحمار مات حمارنا، فقال خير، ثم قالوا مات الكلب فقال خير، ثم قالوا مات الديك فقال خير، فغضب أهل ا الدار و قالوا أي خير في هذا متاعنا ذهب و نحن ننظر، فاتفق أن بعض العرب ضربوا على ذلك الحي في تلك الليلة، فاجتاحوا كل ما فيه، و كانوا يستدلون بنهير الحمير و نباح الكلاب و صراخ الديكة، فأصبحت خيمته سالمة إذ لم يكن بقي فيها من يفضحها..

فانظر كيف كان نظر الحق إلى أوليائه، و حسن تدبيره لهم، و كيف فهم الرجل العارف ما في ذلك من السر في أول مرة، فهذا هو الفهم عن الله، رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر آمين..

قال الشبلي: الصوفية أطفال في حجر الحق تعالى، يعني أنه يتولى حفظهم و تدبيرهم على ما فيه صلاحهم، و لا يكلهم إلى أنفسهم، و الله تعالى أعلــم..

 

سر عدم الفهم عن الله

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire