لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود، و إن تعين زمنه، لئلا يكون ذلك قدحا في بصيرتك و إخمادا لنور سريرتك.

التشكيك في الشيء هو التردد في الوقوع و عدمه، و الوعد: الإخبار بوقوع الشيء في محله، و الموعود المخبر به، و القدح في الشيء التنقيص له و الغض من مرتبته، و البصيرة القوة المهيئة لإدراك المعاني، و السريرة القوة المستعدة لتمكن العلم و المعرفة، و اعلم أن النفس و العقل و الروح و السر شيء واحد، لكن تختلف التسامي باختلاف المدارك، فما كان من مدارك الشهوات فمدركه النفس، و ما كان من مدارك الأحكام الشرعية فمدركه العقل، و ما كان من مدارك التجليات و الواردات فمدركه الروح، و ما كان من مدارك التحقيقات و التمكنات فمدركه السر، و المحل واحد، و إخماد الشيء إخفاؤه بعد ظهوره..

   قلت: إذا و عد الحق سبحانه و تعالى بشيء على لسان الوحي أو الإلهام، من نبي أو ولي، أو تجل قوي، فلا تشك أيها المريد في ذلك الوعد إن كنت صديقا، فإن لم يتعين زمنه فالأمر واسع، و قد يطول الزمان و قد يقصر، فلا تشك في وقوعه و إن طال زمنه، و قد كان بين دعاء سيدنا موسى و هارون على فرعون بقول: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) يونس/88،أربعون سنة على ما قيل، و إن تعين زمنه، و لم يقع ذلك عند حلوله، فلا تشك في صدق ذلك الوعد، فقد يكون ذلك مترتبا على أسباب و شروط غيبية أخفاها الله تعالى على ذلك النبي أو ذلك الولي، لتظهر قهريته و عزته و حكمته، و تأمل قضية سيدنا يونس عليه السلام حيث أخبر قومه بالعذاب لما أخبر به، و فر عنهم و كان ذلك على عدم إسلامهم، فلما أسلموا تأخر عنهم العذاب، و كذلك قضية سيدنا نوح عليه السلام قال: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) هود/45، فوقف مع ظاهر العموم فقال تعالى: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هود/46، و نحن إنما وعدنا بنجاة الصالح من أهلك، و إن فهمت العموم فعلمنا متسع، و لهذا السر الخفي كان الرسول صلى الله عليه و سلم و أكابر الصديقين لا يقفون مع ظاهر الوعد، فلا يزول اضطرارهم و لا يكون مع الله قرارهم، بل ينظرون لسعة علمه تعالى، و نفوذ قهره، و منه قول سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام: (وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) الأنعام/80، و قول سيدنا شعيب عليه السلام: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) الأعراف/89، و قضية نبينا عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام يوم بدر حيث دعا حتى سقط رداؤه و قال: " اللهم عهدك و وعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد بعد اليوم" فقال له الصديق: حسبك يا رسول الله، فإن الله منجز لك ما وعدك، فنظر المصطفى صلى الله عليه و سلم أوسع لعدم وقوفه مع ظاهر الوعد، و قف الصديق مع الظاهر، فكل على صواب، و النبي صلى الله عليه و سلم أوسع نظرا، و أكمل علما، و أما قضية الحديبية، فلم يتعين فيها زمن الوعد لقوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح/27، و قد قال عليه السلام حين قال له عمر: ألم تخبرنا أنا ندخل مكة، فقال صلى الله عليه و سلم: " أقلت لك هذا العام " فقال لا، فقال: " إنك داخلها وطواف بها "..

  فشد يدك يا أخي على تصديق ما وعدك الله به، و حسن ظنك به و بأوليائه، و لا سيما شيخك، فإياك أن تضمر التكذيب أو الشك، فيكون ذلك قدحا في بصيرتك، و قد يكون سببا في طمسها، و يكون أيضا إخمادا، أي إخفاء و إطفاء لنور سريرتك، فترجع من حيث جئت، و تهدم كل ما بنيت، فانظر أحسن التأويلات، و التمس أحسن المخارج، و قد تقدم كلام شيخ شيوخنا سيدي على رضي الله عنه: نحن إذا قلنا شيئا فخرج فرحنا مرة، و إذا لم يخرج فرحنا عشر مرات، و ما ذلك إلا لوسع نظره و تمكنه في معرفة ربه، و أيضا قد يطلع الله أولياءه على نزول القضاء، و لا يطلعهم على نزول اللطف، فينزل ذلك القضاء مصحوبا باللطف، فينزل خفيفا سهلا حتى يضن أنه لم ينزل، و قد شهدنا هذا، و ما قبله من أنفسنا و من أشياخنا رضي الله عنهم، فلم ينقص صدقنا و لم يخمد نور سريرتنا، فلله الحمد ربنا..

   (تنبيه) كان شيخنا الفقيه سيدي التاودي بن سودة يستشكل هذه الحكمة و يقول: كيف يتصور تعيين الزمان إن كان بالوحي، و الوحي قد انقطع، فما بالك بالإلهام، فلا يلزم القدح في البصيرة من الشك فيه إذ لا يجب الإيمان به، قلنا: كلامنا مع المريدين الصديقين السائرين، أو الواصلين، و هم مطالبون بالتصديق للأشياخ في كل ما نطقوا به إذ هم ورثة الأنبياء، فهم على قدمهم، فللأنبياء وحي الأحكام، و للأولياء وحي الإلهام، لأن القلوب إذا صفت من الأكدار و الأغيار، و ملئت بالأنوار و الأسرار، لا يتجلى فيها إلا الحق، فإذا نطقوا بشيء من وعد أو وعيد يجب على المريد تصديقه، فإذا دخله تشكيك أو تردد فيما وعده الله على لسان نبيه أو شيخه قدح ذلك في نور بصيرته، و أخمد سريرته، فإذا لم يعين زمنه انتظر وقوعه، و إن طال و إن عين زمنه، و لم يقع تأول فيه ما تقدم في حق الرسل من توقفه على أسباب و شروط خفية، و بهذا فرقوا بين الصديق و الصادق، لأن الصديق لا يتردد و لا يتعجب، و الصادق يتردد، ثم يجزم، و إن رأى خرق عادة تعجب و استغرب، و الله تعالى أعلم.. 

الباب الثانـي

أجنــاس الأعمــال

   التعرف هو ما منه إليك، و العمل هو ما منك إليه

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire