قوم أقامهم الحق لخدمته، و قوم اختصهم بمحبته، كلا نمد، هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك، و ما كان عطاء ربك محظورا.

قلــت: العباد المخصوصون بالعناية على قسمين:

قسم وجههم الحق لخدمته، و أقامهم فيها، و هم أنواع:

منهم من انقطع في الفيافي و القفار لقيام الليل و صيام النهار، و منهم من وجههم الحق لإقامة الدين و حفظ شرائع المسلمين و هم العلماء و الصلحاء، و منهم من أقامه الحق لنصرة الدين و إعلاء كلمته، و هم المجاهدون في سبيل رب العالمين، و منهم من أقامه الحق لتمهيد البلاد و تسكين العباد و هم الأمراء و السلاطين، و قسم أقامهم الحق لمحبته و اختصهم بمعرفته، و هم العارفون الكاملون، سلكوا سواء الطريق و وصلوا إلى عين التحقيق، و بينهما فرق كبير، لأن أهل الخدمة طالبون الأجور، و أهل المحبة رفعت عنهم الستور، أهل الخدمة يأخذون أجورهم وراء الباب، و أهل المحبة في مناجاة الأحباب، أهل الخدمة مسدول بينهم و بينه الحجاب، و أهل المحبة مرفوع بينهم و بينه الحجاب، أهل الخدمة من أهل الدليل و البرهان و أهل المحبة من أهل الشهود و العيان، أهل الخدمة لا تنفك عنهم الحظوظ، و أهل المحبة تصب عليهم الحظوظ، أهل الخدمة محبتهم مقسومة و أهل المحبة محبتهم مجموعة، فلذلك دام أهل الخدمة في خدمتهم، و نفد المحبون إلى شهود محبوبهم، فلو تركوا الحظوظ، و حصروا محبتهم في محبوب واحد لنفذوا إلى محبوبهم و شهدوا ببصر إيقانهم، و استراحوا من تعب خدمتهم، و لكن حكمة الحكيم أقامتهم في خدمتهم، فوجب تعظيمهم بالجملة، و لا يلزم منه تعظيم أهل المعرفة و المحبة عليهم، انظر كيف قال تعالى بعد ذلك: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) الإسراء/21 فدل على تفضيل بعضهم على بعض، لكن عبيد الملك كلهم معظمون في الجملة، و لا يحي الملك أن يحقر له عبد من عباده و إن كانوا متفاوتين عنده، و الله تعالى أعلــم..

و قال أبو يزيد رضي الله عنه: اطلع الله على قلوب أوليائه، فمنهم من لم يصلح لحمل المعرفة صرفا، فشغلهم بالعبادة، و قال أبو العباس الدينوري رضي الله عنه: إن لله عبادا لم يستصلحهم لمعرفته، فشغلهم بخدمته، و له عباد لم يستصلحهم لخدمته فأهلهم لمحبته، و قال يحيى بن معاد رضي الله عنه: الزاهد صيد الحق في الدنيا، و العارف صيد الحق من الجنة..

يعني أن الزاهد اصطاده الله من الدنيا فقبضه و أدخله الجنة، و العارف اصطاده الحق من الجنة فأدخله الحضرة، اصطاده من جنة الحس و جعله في جنة المعنى و هي جنة المعارف.

و قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه في كتابه: سبحان من هيأ أقواما لخدمته و أقامهم فيها، و هيأ أقواما لمحبته و أقامهم فيها، أهل الخدمة: تجلى لهم الحق بصفة الجلال و الهيبة، فصاروا مستوحشين من الخلق، قلوبهم شاخصة لما يرد عليها من حضرة الحق، قد نحلت أجسادهم، و اصفرت ألوانهم، و خمصت بطونهم، و بالشوق ذابت أكبادهم، و قطعوا الدياجي بالبكاء و النحيب، و استبدلوا الدنيا بالمجاهدة في الدين، و رغبوا في جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين، و أهل المحبـة: تجلى لهم الحق تعالى بصفة الجمال و المحبة، و سكروا بخمر لذيذ القربة، شغلهم المعبود أن يكونوا من العباد و لا من الزهاد، اشتغلوا بالظاهر و الباطن و هو الله، فحجبوا عن كل ظاهر و باطن، زهدوا في التنعم و الإنعام و اشتغلوا بمشاهدة الملك العلام.

كلامه هذا رضي الله عنه آخر الباب السابع، و حاصلها:

رفع الهمة و شكر النعمة و حسن الأدب في الخدمة، و نفوذ العزيمة، و الانتقال من دوام الخدمة إلى المحبة و المعرفة، و إذا أراد الله أن يصطفي عبدا بحمل معرفته، و ينقله من تعب خدمته قوى عليه الواردات الإلهية، فجذبته الحضرة الربانية، و هي مواهب لا مكاسب تنال بأعمال و لا بحيل، و قل أن تأتي إلا بغتة كما أشار إلى ذلك في أول الباب الثامن..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire