إذا رأيت عبدا أقامه الله بوجود الأوراد، و أدامه عليها مع طول الإمداد، فلا تستحقرن ما منحه مولاه، لأنك لم تر عليه سيما العارفين و لا بهجة المحبين، فلولا وارد ما كان ورد.

قلـت: ما ذكره الشيخ هنا من مؤكدات هذا الباب، و الكل في الآداب، و ذلك ألا تستحقر شيئا من تجليات الحق على أي حال كانت، فلا ينبغي أن ينازع مقتدر و لا أن يضاد قهار و لا أن يعترض على حكيم، فإذا رأيت عبدا أقامه الحق تعالى بوجود الأوراد، ككثرة صلاة و صيام، و ذكر و تلاوة و اجتهاد، و أدامه عليها مع طول الإمداد، بكسرة الهمزة أي استمراره معه و هو تقويته في الباطن و صرف الشواغل و الشواغب في الظاهر لكنه لم يفتح عليه في علم الأذواق و عمل القلوب، فلا تستحقرن حاله و ما منحه مولاه، لأنك لم تر عليه سيما العارفين، من السكينة و الطمأنينة و راحة الجوارح و القلب بسبب هبوب نسيم الرضا و التسليم على أرواحهم، و قال الشيخ زروق: سيما العارفين ثلاث: الإعراض عما سوى معروفهم بكل حال و على كل وجه، و الإقبال عليه بترك الحظوظ و إقامة الحقوق، و الرضا عنه في مجاري أقداره/.

و لا تستحقر حاله أيضا لأجل أنك لم تر عليه بهجة المحبين، و هي الفرح بمحبوبه و الإكثار من ذكره، و القيام بشكره، و الاغتباط بمحبته، و المسارعة إلى محابه و طلب مرضاته و الخضوع لعظمته و التذلل لقهره و عزته..

تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل

إذا رضي المحبوب صح لك الوصل

تذلل له تحضى برؤيا جمــاله

ففي وجه من تهوى الفرائض و النفل

فكيف تستحقر من دامت خدمته و اتصلت أوراده، فلولا وجود الوارد الإلهي في باطنه ما قدر على إدامة أوراده، فلولا وارد ما كان ورد، و الوارد ما منه إليك، و الورد ما منك له، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) النور/21.. (فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) البقرة/64.. (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) النساء/83.. (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) المائدة /54 ، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة/118، فالعناية سابقة و الهداية لاحقة، و الأمر كله بيده، و في التحقيق مأثم إلا سابقة التوفيق، و لا حول و لا قوة إلا بالله ..

قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: أكرم المؤمنين و إن كانوا عصاة فاسقين و أقم عليهم الحدود، و اهجرهم رحمة بهم لا تقذرا لهم، و قال الشيخ زروق رضي الله عنه: فالمنتسب لجانب الحق يتعين إكرامه مراعاة لنسبته، ثم إن كان كاذبا، فالأمر بينه و بين من انتسب إليه، فإن أمرنا بإقامة حقه عليه بحيث يتعين عليه كنا معه كعبد السيد يضرب ولد سيده بإذنه ليؤذبه، و لا يحتقره، و لأبي الحسن الحراني رحمه الله:

ارحم بني جميع الخلق كلهـم

و انظر إليهم بعين اللطف و الشفقة

و قر كبيرهم و ارحم صغيرهم

و راع في كل خلق حقّ مَن خلقه

ثم إن الإقامة على دوام الأوراد، و هي خدمة الجوارح، من شأن أهل الخدمة، و هم العبّاد و الزهّاد، و الانتقال منها إلى عمل القلوب، من شأن أهل المحبة و المعرفة، و هم العارفون، و كلهم عباد الله و من أهل عنايته، فلا يستحقرهم إلا جاهل أو مطرود كما بين ذلك بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire