ما بسقت أغصان ذل إلا على بذر طمع.

قلــت: البسوق هو الطول، قال تعالى: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ) ق/10،أي طويلات، و البذر هي البذور( الزريعة)، و الطمع تعلق القلب بما في أيدي الخلق، و تشوف القلب إلى غير الرب، و هو أصل شجرة الذل، فما بسقت أغصان شجرة الذل إلا من بذور الطمع، و لذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي: و الله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق..

و إنما كان الطمع هو أصل الذل، لأن صاحب الطمع ترك ربا عزيزا و تعلق بعبد حقير، مثله من ترك ربا كريما و تعلق بعبد فقير فافتقر، مثله من ترك رفع همته إلى الغني الكريم، و أسقط همته إلى الداني اللئيم، إن الله يرزق العبد على قدر همته، و أيضا كان عبد الله حرا مما سواه، صار عبدا للمخلوق و عبدا لنفسه و هواه، لأنك مهما أحببت شيئا و طمعت فيه إلا كنت عبدا له، و مهما أيست من شيء، و رفعت همتك عنه، إلا كنت حرا منه، و في ذلك يقول الشاعر:

و أبت المطامع أن تهمشني

إني لمعولها صفا صلــد

العبد حر ما عصى طمعا

و الحر مهما طاعه عبـد

قال في التنوير، و كن أيها العبد إبراهيميا، فقد قال أبوك إبراهيم صلوات الله عليه و سلامه: لا أحب الأفليـن، و كل ما سوى الله آفل، إما وجودا و إما إمكانا، و قد قال سبحانه و تعالى: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)، فواجب على المؤمن أن يتبع ملة إبراهيم، و من ملة إبراهيم رفع الهمة عن الخلق، فإنه يوم زج به في المنجنيق، تعرض له جبريل عليه السلام، فقال له ألك حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا، و أما إلى الله فبلى، قال فاسأله قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي..

فانظر كيف رفع إبراهيم صلوات الله و سلامه عليه همته عن الخلق و وجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبريل و لا احتال على السؤال من الله، بل رأى الحق سبحانه و تعالى أقرب إليه من جبريل و من سؤاله، و لذلك سلمه من نمرود و نكاله، و أنعم عليه بنواله و أفضاله، و خصه بوجود إقباله..

و من ملة إبراهيم معادات كل ما شغل عن الله و صرف الهمة بالود عن الله لقوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) الشعراء/77، و الغني إن أردت الدلالة عليه فهو في اليأس، قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: أيست من نفع نفسي لنفسي، فكيف لا أيأس من نفع غيري لها، و رجوت الله لغيري فكيف لا أرجوه لنفسي، و هذا هو الكيمياء و الإكسير، الذي من حصل له، حصل له غنى لا فاقة فيه، و عز لا ذل معه، و إنفاق لا نفاذ له، و هو كيمياء أهل الفهم عن الله.

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: صحبني إنسان و كان ثقيلا علي، فباسطته فانبسط، و قلت يا ولدي ما حاجتك و لم صحبتني؟ قال: يا سيدي قيل لي أنك تعلم الكيمياء، فصحبتك لأتعلم منك، فقلت له صدقت و صدق من حدثك، و لكن أخالك أي أظنك لا تقبل، فقال بل أقبل، فقلت: نظرت إلى الخلق فوجدتهم على قسمين، أعداء و أحباب، فنظرت إلى الأعداء فوجدت أنهم لا يستطيعون أن يشوكوني بشوكة لم يردني الله بها فقطعت نظري عنهم، فتعلقت بالأحباب فوجدت أنهم لا يستطيعون أن ينفعوني بشيء لم يردني الله به، فقطعت يأسي منهم، و تعلقت بالله، فقيل لي: إنك لا تصل إلى حقيقة هذا الأمر حتى تقطع يأسك منا كما قطعته من غيرنا، أن نعطيك غير ما قسمنا لك في الأزل..

و قال مرة أخرى لما سئل عن الكيمياء، قال: أخرج الخلق من قلبك، و اقطع يأسك من ربك أن يعطيك غير ما قسم لك، و ليس يدل على فهم العبد كثرة علمه و لا مداومته على ورده، إنما يدل على نوره و فهمه غناه بربه، و انحياشه إليه بقلبه، و تحرزه من رق الطمع، و تحليه بحلية الورع، و بذلك تحسن الأعمال و تزكو الأحوال، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الكهف7، فحسن الأعمال إنما هو الفهم عن الله، و الفهم هو ما ذكرناه في الاغتناء بالله و الاكتفاء به و الاعتماد عليه و رفع الحوائج إليه و الدوام بين يديه، و كل ذلك من ثمرة الفهم عن الله..

و تفقد وجود الورع من نفسك أكثر مما تتفقد ما سواه، و تطهر من الطمع في الخلق، فلو تطهر الطامع فيهم بسبعة أبحر ما طهره إلا اليأس منهم و رفع الهمة عنهم، و قــدم علي رضي الله عنه البصرة، فدخل جامعا، فوجد القصاص يقصون، فأقامهم حتى وجد الحسن البصري فقال يا فتى: إني سائلك عن أمر، فإن أجبت عنه أبقيتك، و إلا أقمتك كما أقمت أصحابك، و كان قد رأى عليه سمتا و هديا فقال الحسن: سل عما شئت، فقال : ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال : فما فساد الدين: قال: الطمع، قال إجلس، فمثلك يتكلم على الناس.

قال و سمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول: كنت في ابتداء أمري بالأسكندرية، فجئت إلى بعض من يعرفني، فاشتريت منه حاجة بنصف درهم، فقلت في نفسي لعله لا يأخذه مني، فهتف بي هاتف السلامة في الدين بترك الطمع من المخلوقين، و سمعته يقول: صاحب الطمع لا يشبع أبدا، ألا ترى أن حروفه كلها مجوفة، الطاء و الميم و العين.

فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق، و لا تذل لهم في شأن الرزق، فقد سبقت قسمته وجودك، و تقدم ثبوته ظهورك، و اسمع ما قال بعض المشايخ: أيها الرجل، ما قدر لماضغيك أن يمضغاه فلا بد أن يمضغاه، فكله ويحك بعز و لا تأكله بذل.

و قال أبو الحسن الوراق، من أشعر نفسه محبة شيء من الدنيا فقد قتلها بسيف الطمع، و من طمع في شيء ذل له و بذلك هلك، و قال أبو بكر الوراق: لو قيل للطمع من أبوك لقال الشك في المقدور، فلو قيل له: ما حرفتك لقال: اكتساب الذل، فلو قيل له ما غايتك، لقال : الحرمان، و في معنى هذا أنشدوا:

إضرع إلى الله لا تضرع إلى النــاس

و اقنع بعز فإن العز في اليــأس

و استغن عن كل ذي قربى و ذي رحم

إن الغني من استغنى عن النــاس

 

سبب الطمع هو الوهم و الجزع

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire