الأنوار مطايا القلوب، و الأسرار و النور جند القلب، كما أن الظلمة جند النفس، فإذا أراد أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار و قطع عنه مدد الظلم و الأغيار.

الأنــوار مطايــا القلـوب و الأســرار

قلت: النور نكتة تقع في قلب العبد من معنى اسم أو صفة، يسري معناها في كليته حتى يبصر الحق، و الباطل إبصارا لا يمكنه التخلف معه عن موجبه، قاله الشيخ زروق، و المطايا جمع مطية، و هي الناقة المهيأة للركوب، و القلوب جمع قلب، و هو الحقيقة القابلة للمفهومات، و الأسرار جمع سر، و هو الحقيقة القابلة للتجليات، و السر أدق و أسمى من القلب، و الكل اسم للروح، فالروح ما دامت متظلمة بالمعاصي و الذنوب، و الشهوات و العيوب سميت نفسا، فإذا انزجرت و انعقلت انعقال البعير سميت عقلا، فما زالت تتقلب في الغفلة و الحضور سميت روحا، فإذا تصفت من غبش الحس سميت سرا، لكونها صارت سرا من أسرار الله حين رجعت إلى أصلها، و هو سر الجبروت، فإذا أراد الله تعالى أن يوصل أحدا إلى حضرة قدسه، و يحمله إلى محل أنسه، أمده بواردات الأنوار كالمطايا، فيحمل عليها في محفة العناية، مروحا عليها بنسيم الهداية، محفوفا بنصرة الرعاية، فترحل الروح من عوالم البشرية إلى عوالم الروحانية، حتى تصير سرا من أسرار الله، لا يعلمها إلا الله، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) الإسراء/85.

فالأنوار التي هي الواردات هي مطايا القلوب، تحملها إلى حضرة علام الغيوب، و هي أيضا مطايا الأسرار، تحملها إلى العزيز الجبار، فالسلوك هداية و الجذب عناية، فوارد الانتباه و الإقبال حمله سلوك، و وارد الوصال حمله جذب، فالأنوار التي هي مطايا القلوب، تحملهم على مطايا الأسرار، فإنها تحملهم على جهة الجذب ممزوجا بالسلوك، فيكونون بين جذب و سلوك، و هذا الحمل أعظم، و الله تعالى أعلم.

ثم بين كيفية السير على هذه المطايا، و ما يعوقها عن السير فقال:

 

النور جند القلـب، كما أن الظلمة جند النفس،

فإذا أراد الله أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار، و قطع عنه مدد الظلم و الأغيار

 

قلـت: الظلم نكتة تقع من الهوى في النفس عن عوارض الوهم، فتوجب العمى عن الحق، لتمكن الباطل من الحقيقة، فيأتي العبد و يذر على غير بصيرة (قاله الشيخ زروق)،

قلـت: قد تقدم أن النفس و العقل و الروح و السر اسم لمسمى واحد، و هو اللطيفة الربانية المودعة في هذا القالب الجسماني الظلماني، و إنما اختلفت أسماؤه باختلاف أحوالها و تنقل أطوارها، و مثال ذلك كماء المطر المنزل في أصل الشجر، ثم يصعد في فروعها، فيظهر ورقا ثم نورا و أزهارا، ثم يعقد ثمره، ثم ينمو حتى يكمل، فالماء واحد، و اختلفت أسماؤه باختلاف أطواره، هكذا قال الساحلي في بغيته، و قد نظمت في ذلك قصيدة ذكرت في غير هذا الباب، فعلى هذا يكون تقابل القلب مع النفس بالمحاربة، كناية على صعوبة انتقال الروح من وطن الظلمة، التي هي محل النفس، إلى وطن النور الذي هو القلب، و ما بعده، فالقلب يحاربها لينقلها إلى أصلها، و هي تتقاعد و تسقط إلى أرض البشرية و شهواتها، فالقلب له أنوار الواردات تقربية، و تنصره حتى يترقى إلى الحضرة، التي هي أصله، و فيها كان وطنه، و كأنها جنود له من حيث أنه يتقوى بها، و ينتصر على ظلمة النفس، و هذه الأنوار هي الواردات المتقدمة..

و النفس لما ركنت إلى الشهوات، و استحلتها صارت كأنها جنود لها، و هي ظلمة، من حيث أنها حجبتها عن الحق، و منعنها من شهود شموس العرفان، فإذا هاجت النفس بجنود ظلماتها و شهواتها إلى معصية أو شهوة، رحل إليها القلب بجنود أنواره، فيلتحم بينهما القتال، فإذا أراد الله عناية عبده و نصره، أمده بجنود الأنوار، و قطع عنه من جهة النفس مدد الأغيار، فيستولي النور على الظلمة، و تولي النفس منهزمة..

و إذا أراد خذلان عبده أمد نفسه بالأغيار، و قطع عن قلبه شوارق الأنوار، فيأتي المنصور بالأمر على وجهه و المخذول بالشيء على عكسه، قال الشيخ زروق رضي الله عنه: و أمداد الأنوار ثلاثة: يقين لا يخالطه شك و لا ريب، و علم تصحبه بصيرة، و بيان الثالث إلهام يجري معد العيان؛ و إمداد الظلام ثلاثة: أولها ضعف اليقين، و الثاني غلبة الهوى على النفس، و الثالث الشفقة على النفس، و ذلك كله الرضىذا عن النفس و عدمه، و مظهره الثلاثة المترتبة عليه، و هي المعاصي و الشهوات و الغفلات، و أضدادها المتقدمة في الباب الثالث، فافهم..

و لما كان النور هو جند القلب، لأنه يكشف عن حقائق الأشياء، فيتميز الحق من الباطل، فيحق الحق و يبطل الباطل، فينتصر القلب بإقباله على الحق عن بينة واضحة، و تنهزم النفس بانهزام جند ظلماتها، إذ لا بقاء للظلمة مع وجود النور، كما أشار بذلك بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire