لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه.

لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله

قلت: الناس في الخوف و الرجاء على ثلاثة أقسام:

أهل البداية ينبغي لهم تغليب جانب الخوف، و أهل الوسط ينبغي أن يعتدل خوفهم و رجاؤهم، و أهل النهاية يغلّبون جانب الرجــاء.

أما أهل البداية، فلأنهم إذا غلَّبوا جانب الخوف جدوا في العمل، و انكفوا عن الزلل، فبذلك تشرق نهايتهم (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) {العنكبوت/69.

و أما أهل الوسط، فلأنهم قد انتقلت عبادتهم إلى تصفية بواطنهم، فعبادتهم قلبية، فلو غلبوا جانب الخوف لرجعوا إلى عبادة الجوارح، و المطلوب منهم عبادة البواطن على رجاء الوصول و خوف الفضيحة، فيعتدل خوفهم و رجاؤهم.

و أما الواصلون، فلا يرون لأنفسهم فعلا و لا تركا، فهم ينظرون إلى تصريف الحق و ما يجري به سابق القدر ليتلقونه بالقبول و الرضا، فإن كان طاعة شكروا و شهدوا منة الله، و إن كان معصية اعتذروا و تأدبوا و لم يقفوا مع أنفسهم، إذ لا وجود لها عندهم، و إنما ينظرون إلى ما يبرز من عنصر القدرة، فنظرهم إلى حلمه و عفوه و إحسانه و بره أكثر من نظرهم إلى بطشه و قهره، و يرحم الله الشافعي إذ قال:

فلما قسا قلبي و ضاقت مذاهبي

جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنتـــه

بعفوك ربي كن عفوك أعظما

فما زلت ذا جود و فضل و منة

تجود و تعفو منة و تكرمــا

فيا ليت شعري هل أصير لجنة

أهنا، و إما للسعير فأندمــا

 

قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) {الزمر/53، و تأمل قضية الذي قتل تسعا و تسعين نفسا ثم سأل راهبا فقال له لا توبة لك، فأكمل به المائة، ثم أتى عالما فقال له من يحول بينك و بينها، و لكن إذهب إلى قرية كذا ففيها قوم يعبدون الله فكن فيهم حتى تموت، فلما توسط الطريق أدركته الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، فأوحى الله إليهم أن قيسوا القرية التي خرج منها و القرية التي خرج إليها، فإلى أيهما كان أقرب، فأوحى الله إلى القرية التي يريد، أن تقاربي، و إلى القرية التي خرج منها أن تباعدي، فوجد إلى القرية التي يريد أقرب بشبر، فأخذته ملائكة الرحمة.

و الحديث في الصحيحين نقلته بالمعنى، و قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: العامة إذا خوفوا خافوا، و إذا رجوا رجوا، و الخاصة متى خوفوا رجوا، و متى رجوا خافوا.

قال في لطائف المنن: كلام الشيخ هذا أن العامة واقفون مع ظاهر الأمر، فإن خُوّفوا خافوا، إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبارة بنور الفهم كما لأهل الله، و أهل الله إذا خوفوا رجوا عالمين أن من وراء خوفهم و ما خوفوا به أوصاف المرجو الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته، و لا أن ييأس من منته، فاحتالوا على أوصاف كرمه علما منهم، ما خوفهم إل ليجمعهم عليهم، و ليردهم بذلك إليه، و إذا رجعوا يخافون غيب مشيئته الذي هو من وراء رجائهم، و خافوا أن يكون ما ظهر من الرجاء اختبارا لعقولهم، هل تقف مع الرجاء أو تنفذ إلى ما بطن في مشيئته، فلذلك أثار الرجاء خوفهم.

و دخل الجنيد على شيخه السري رضي الله عن الجميع فوجده مقبوضا، فقال له: ما لك أيها الشيخ مقبوضا، فقال دخل علي شاب فقال لي ما حقيقة التوبة، فقلت له ألا تنسى ذنبك، فقال الشاب: بل التوبة أن تنسى ذنبك، ثم خرج عني، قال الجنيد: فقلت الصواب ما قال الشاب، لأني إذا كنت في حالة الجفاء، ثم نقلني إلى شهود الصفاء، فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء.

قلـت: نظر السري إلى أهل البداية، و نظر الجنيد إلى أهل النهاية، و الكل صواب، و الله تعالى أعلم.

ثم ذكر موجب تصغير الذنب فقال:

فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه

قلــت: بل من عرف ربه غاب عن رؤية ذنبه لفنائه عن نفسه بشهود ربه، فإن صدر منه فعل يخالف الحكمة غلب عليه شهود النعمة قال تعالى: (نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الحجر/49 و أما قوله تعالى: (وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ) الحجر/50 فإنما هو لمن يتب، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " لو أذنبتم حتى تبلغ خطاياكم عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم" و لو أن العباد لم يذنبوا لذهب الله بهم ثم جاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم و هو الغفور الرحيم، و الله أفرح بتوبة عبده من الظمآن الوارد، و من العقيم الوالد، و من الضال الواجد، لكن لا يجب أن يصغر عنده ذنبه حتى يغتر بحلم الله.

و قد أوحى الله إلى داوود عليه السلام أن يا داوود، قل لعبادي الصديقين لا يغتروا، فإني إن أقم عليهم عدلي و قسطي أعذبهم غير ظالم لهم، و قل لعبادي المذنبين لا يقنطوا، فإنه لا يعظم عليهم ذنب أغفره لهم.

و قال الجنيد رضي الله عنه: إذا بدت عين من الكريم ألحقت السيئ بالمحسن، و قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في حزبه: إلَََهــي معصيتك نادتني بالطاعة، و طاعتك نادتني بالمعصية، ففي أيهما أخاف، و في أيهما أرجو، إن قلت بالمعصية قابلتني بفضلك، فلم تدع لي خوفا، و إن قلت بالطاعة قابلتني بعدلك فلم تدع لي رجاء، فليت شعري كيف أرى إحساني إحسانك، أم كيف أجهل فضلك مع عصيانك.

و معنى كلام الشيخ رضي الله عنه، أن العبد إذا كان في المعصية شهد قهرية الحق و عظمته و ضعف نفسه و عجزه، و اكتسب من المعصية انكسارا و ذلا لنفسه، و تعظيما و إجلالا لربه، و هذا أفضل الطاعات، فقد نادته معصيته التي هو فيها بالطاعة التي يجتنيها منها، و إن كان في الطاعة ربما شهد فيها نفسه، و قصد متعته و حظه، فأشرك بربه و أخل بأدبه، و هذه معصية، فإذا كان في الطاعة نادته بهذه المعصية التي يجتنيها منها، فلا يدري من أيهما يخاف، و أيهما يرجو، و قوله: إن قلت بالمعصية ... أي إن نظرت إلى صورة المعصية قابلتني بفضلك فامتحى اسمها و اندرس رسمها، و إن نظرت إلى صورة الطاعة قابلتني بعدلك فاضمحلت و امتحت، و بقي محض الرجاء من الكريم الوهاب، الذي يعطي بلا سبب، و يغطي بحلمه المناقشة و العتاب، و الله تعالى أعلم.

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire