لا تصحب من لا ينهضك حاله، و لا يدلك على الله مقاله، ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك.

لا تصحب من لا ينهضك حاله، و لا يدلك على الله مقالــه

   قلت: الذي ينهضك حاله هو الذي إذا رأيته ذكرت الله، فقد كنت في حالة الغفلة، فلما رأيته نهض حالك إلى اليقظة، أو كنت في حالة الرغبة، فلما رأيته نهض حالك إلى الزهد، أو كنت في حالة الاشتغال بالمعصية، فلما رأيته نهض حالك إلى التوبة، أو كنت في حالة الجهل بمولاك فنهض حالك إلى معرفة من تولاك، و هكذا.. و الذي يدلك على الله مقاله، هو الذي يتكلم بالله و يدل على الله، و يغيب عما سواه، إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب، و إذا سكت انهمك حاله في علام الغيوب، فحاله يصدق مقاله، و مقاله موافق لعلمه، فصحبة مثل هذا إكسير يقلب الأعيان، و هو مفهوم من قول الشيخ: لا تصحب من لا ينهضك حاله...، أي بل اصحب من ينهضك حاله و يدلك على الله مقاله، و الصحة في طريق التصوف أمر كبير في السير إلى الله تعالى حسبما جرت به عادة الله تعالى و حكمته حتى قال بعضهم: من لا شيخ له فالشيطان شيخه، و قال آخر: الإنسان كالشجرة النابتة في الخلاء، فإن لم تقطع و تلقم كانت دكارة، و قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل من لا شيخ له في هذا الشأن لا يفرح به..

   و من شروط الشيخ أربعة:

   علم صحيح، و ذوق صريح، و همة عالية، و حالة مرضية..

   فالعلم الصحيح هو ما يتقن به فرضه، و لا بد أن يكون عالما بالمقامات و المنازل التي يقطعها المريد، و بغرور النفس و مكائدها، يكون قد سلك ذلك على يد شيخ كامل، و ذاق ذلك ذوقا لا تقليدا و هذا هو المقصود بالذوق الصريح..

  و الهمة العالية هي المتعلقة بالله دون ما سواه..

  و الحالة المرضية هي الاستقامة بقدر الاستطاعة، و لا بد أن يكون جامعا بين حقيقة و شريعة، و بين جذب و سلوك، فيجذبه بجذب القلوب، و بسلوكه يخرجه من حالة الجذب إلى البقاء، فالسالك فقط ظاهري لا يجذب و لا يحقق، و المجذوب فقط لا يسير و لا يوصل، و فساد صحبته أكبر من نفعها، قال في أصول الطريق:

   و من فيه خمس لا تصح مشيخته: الجهل بالدين، و إسقاط حرمة المسلمين، و دخول ما لا يعني، و اتباع الهوى في كل شيء و سوء الخلق من غير مبالاة، .. فصحبة هذا ضرر محض و إليه أشار بقوله :

 

الحكمة الخامسة و الأربعون

ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك

قلــت: ربَّ هنا للتكثير، و صحبتك فاعل بأراك، و الإحسان مفعول مقدم، و التقدير: ربما تكون مسيئا في حالك، مقصرا في عملك، فإذا صحبت من هو أسوأ حالا منك، أراك أي أبصرتك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك الإحسان منك لما ترى ما يصدر منها من الإحسان و من المصحوب من التقصير و النقصان، فتعتقد المزية عليه، لأن النفس مجبولة على رؤية الفضل لها، و مشاهدة التقصير من غيرها علما أو عملا أو حالا، بخلاف ما إذا صحبت من هو أحسن حالا منها، فإنها لا ترى من نفسها إلا التقصير، و في ذلك خير كثير..

   قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: أوصاني حبيبي فقال: لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، و لا تجلس إلا حيث تأمن غالبا من معصية الله، و لا تصطف لنفسك إلا من به تزدادا يقينا، و قليل ما هم.. و قـــال له أيضـا: لا تصحب من يؤثر نفسه عليك فإنه لئيم، و لا تصحب من يؤثرك على نفسه فإنه قل ما يدوم، و اصحب من إذا ذكر، ذكر الله، فالله يغني به إذا شهد، و ينوب عنه إذا فقد، ذكره نور القلب، و مشاهدته مفاتيح الغيوب..

   و حاصلــه: لا تصحب من تتكلف له فوق جهدك، و لا من يتكلف لك كذلك، و خير الأمور أوسطها، و هذا و الله اعلم في صحبة الأخوة، أما في صحبة الشيوخة، فكل ما أمر به الشيخ أو أشار إليه، أو فهمت أنه يحب ذلك، فلا بد أن تبادر إليه بقدر الإمكان و لو كان محالا عادة لأخذت في التهيء للفعل، قال شيخ شيوخنا سيدي العربي بن أحمد بن عبد الله: الفقير الصدّيق هو الذي إذا قال له شيخه أدخل في عين المخيط، لا يتردد، و يقوم مبادرا في امتثال ما أمر و لو كان لا يتأتى منه ذلك، و قال أيضا: صاحبي هو الذي نفتله بشعرة..

   و قال سيدي علي رضي الله عنه في كتابه: اعلم أنه لا يقرب طالب الله إلى الله شيء، مثل جلوسه مع عارف بالله إن وجده، و إن لم يجده، فعليه بذكر الله ليلا و نهارا، قائما و قاعدا، مع العزلة عن أبناء الدنيا بعدم الجلوس معهم، و عدم الكلام كذلك، و عدم النظر إليهم لأنهم سم خارق، و لا يبعد من الله شيء مثل جلوسه مع فقير جاهل، لأن الفقير الجاهل أقبح من العامي الغافل بألف ضعف، و الجلوس مع العارف بالله أفضل من العزلة، و العزلة أفضل من الجلوس مع العوام الغافلين، و الجلوس مع العامي الغافل أفضل من الجلوس مع الفقير الجاهل، و لا شيء في الوجود يسود قلب المريد مثل جلسة مع الفقير الجاهل بالله، فربما أتلف المريد عن مولاه بنظرة أو بكلمة، و يرحم الله المجذوب حيث قال في بعض كلامه: الجلسة مع غير الأخيار ترذل و لو تكــون  صافــي .

و قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس:

   الجبابرة الغافلين، و القراء المداهنيــن، و الصوفية الجاهليــن.

   و زاد الشيخ زروق: علماء الظاهر، قال: لأن نفوسهم غالبة عليهم.

   قلــت: الجلوس معهم اليوم أقبح من سبعين عاميا غافلا و فقيرا جاهلا، لأنهم لا يعرفون إلا ظاهر الشريعة، و يرون أن من خالفهم في هذا الظاهر خاطئ أو ضال، فيجهدون في رد من خالفهم يعتقدون أنهم ينصحون و هم يغشون، فليحذر المريد من صحبتهم و القرب منهم ما استطاع، فإن توقف في مسألة و لم يجد من يسأل عنها عن أهل الباطن، فليسأله على حذر، و يكون معه كالجالس مع العقرب و الحية، و الله ما رأيت أحدا من الفقراء اقترب منهم و صحبهم فأفلح أبدا في طريق الخصوص، و يرحم الله أبا ذر الغفاري رضي الله عنه حيث قال: و الله لا أسألهم دنيا و لا أستفتيهم عن دين.

   قال هذا في علماء الصحابة الأخيار رضي الله عنهم، فما بالك اليوم حين اشتغلوا بجمع الدنيا و تزيين الملابس، و تكبير العمائم و تحسين المآكل و المساكن و المراكب، و رأوا ذلك سنة نبوية، فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، و كان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته، يا معشر العلماء، دياركم هامانية، و مراكبكم قارونية، و أطعمتكم فروعونية، و ولائمكم جالوتية، و مواسمكم جاهلية، و قد صيرتم مذاهبكم شيطانية، فأين الملة المحمدية.

 

ما قل عمل برز من قلب زاهد


0 Commentaire(s)

Poster un commentaire