رب عمر اتسعت آماده و قلت أمداده، و رب عمر قليلة آماده كثيرة إمداده، فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة و لا تلحقه الإشارة.

  ربَّ عمر اتسعت آماده و قلت إمداده، و رب عمر قليلة آماده كثيرة إمداده

   قلت: ربَََََََََََََََََََّ هنا للتكثير في الموضعين، فكثير من الأعمار اتسعت آمادها، آماد جمع أمد، و هو الزمان، أي كثير من الناس طالت أعمارهم و اتسعت أزمنتهم، و قلت: إمدادهم أي فوائدهم، فلم يحصلوا على شيء، حيث اشتغلوا بالبطالة و التقصير حتى مضت تلك الأيام كطيف المنام، و أضغاث أحلام، و كثير من الأعمار قلت آمادهم، أي أزمنتهم و كثرت أمدادهم أي فوائدهم، فأدركوا من فوئد العلم و الأعمال و الأسرار في زمن قليل ما لم يدركه غيرهم في الزمن الكثير.

   و مثال ذلك أهل الجذب مع السلوك، و أهل السلوك وحده، فإن أهل الجذب الموافقين للسالكين، في الأعمال يطوون في ساعة واحدة من مسافة القرب ما لم يدركه أهل السلوك في سنين، و ذلك أهل الفكرة مع أهل الخدمة، فكرة ساعة خير من عبادة سبعين سنة، و في ذلك قال الشاعر:

كـل وقـت مـن حبيبـــي         قـدره كـألــف حجـــة

   و قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: أوقاتنا كلها ليلة القدر، أي كل وقت عندنا أفضل من ألف شهر عند غيرنا، قال القاضي أبو بكر بن عربي المعافري تلميذ الغزالي، لمت الشيخ أبا حامد على انقطاعه و اعتزاله عن الخلق و قطع انتفاعهم بما وهبه الله من العلم الظاهر و الباطن فقال متمثلا:

قـد تيممت بالصعيـد زمانــا        و أنـا الآن قـد ظفــرت بالمـــاء

من سري مطبق الجفون و أضـحى        فاتحا لا يردهــــا للعمـــــاء

   أي كان يمشي مسدود العينين و أضحى أي صار فاتحا لعينيه لا يرجع للعماء، قلت: يا سيدي الاشتغال بالعلم نفع عام و هو من أفضل العبادات، و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس" فقال:

لما قطع قمر السعادة في أفـق الإرادة       و أشرقت شمس الوصول في أرض الأصول

فنادتنـي الأكوان من كل جانــب      ألا أيها السـاعي دويـدك فامهـــل

غزلت لهم غزلا رقيا فلـم أجـــد        لغزلـي نساجـا فكسرت مغزلـــي

   فانظر من أطلعه الله على بركة عمره و أراه ثمرة وقته كيف اختار الآكد فالآكد والأولى فالأولى، ليدرك ما تلمحه من الفوائد و يحظى بالخصائص و الزوائد/.

   قال الشطيبي رحمه الله: قال أحمد بن أبي الحواري لأبي سليمان الدارني رضي الله عنهما: قد غبطت بنو إسرائيل، قال بأي شيء، قلت: بثمانمائة عام حتى يصير كالشنان البالية و كالحنايا و الأوتار، فقال: ما ظننت إلا و قد جئت بشيء، و الله ما يريد الله منا أن تيبس جلودنا على عظامنا، و ما يريد منا إلا صدق النية فيما عنده هذا إذا صدق في عشرة أيام نال ما ناله الآخر في أعماره الطويلة/.

   و قال في القوت، فإن البركة في العمر لا تدرك في عمرك القصير بيقضتك ما فات غيرك في عمرك الطويل بغفلتك، فيرتفع لك في السنة ما لا يرتفع له في العشرين سنة.

  و للخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات، و تدارك لما فات عند أذكارهم، و أعمال قلوبهم اليسيرة في هذه الأوقات، فكل ذرة في ذكر تسبيح أو تهليل أو حمد أو تدبر أو تبصرة أو تفكرة، و تذكرة لمشاهدة قرب، و وجد برب، و نظرة إلى حبيب، و دنو من قريب، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين، الذين هم لنفوسهم واجدون، و للخلق مشاهدون.

   و مثال العارفين فيما ذكرناه من فنائهم بشهادتهم، و رعايتهم لأمانتهم، و عهدهم في وقت قربهم، و حضورهم مثل العامل في ليلة القدر، العمل فيها لمن وافقها خير من ألف شهر، و قد قال بعض العلماء: كل ليلة للعارف بمثابة ليلة القدر/.

   فالبركة في العمر هي إدراك الإمداد العظيمة في الآماد القليلة كما تقدم، و كما بينه بقوله:

من بورك في عمره أدرك في يسير من الزمان من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، و لا تلحقه الإشارة

   قلت: ليست البركة في العمر بكثرة أيامه، و طول أزمانه، و إنما البركة في العمر أن تصبه العناية و تهب عليه ريح الهداية، فيدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى، أي من علومه و معارفه و أسراره ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، لأن مداركه أوسع من ضيق العبارة إذا يقول رب العزة:" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر"

   فقد يدرك العارف من دقائق الأسرار ما تعجز عنه عبارة اللسان، كل ذلك في أقل زمان، و غالب هذا يحصل من ملاقاة الرجال و صحبتهم، فإن المدد الذي يحصل للإنسان في ساعة واحدة معهم لا يحصل في أزمنة طويلة مع غيرهم، و لو كثرت صلاتهم و صيامهم، إذ ليس العبرة بكثرة الأوراد و إنما العبرة بكثرة الإمداد، إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى أحوالكم، و إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم، ذكره في الجامع.

      و الذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، و العمل مع المعرفة ليس كالعمل مع الجهل، و ذلك معلوم، قال الحضرمي في بعض وصاياه: و من كان يستمد من محبرة الجمع فهو يكتب ما يكون و ما لا يكون، طويل طويل، طويل قصير، قصير قصير، شيء شيء، شيء ما شيء، ما شيء ما شيء، عدم عدم، عدم وجود، وجود وجود"

   فالمعنى طويل طويل، و الحي قصير قصير، و الموجود القديم شيء ثابت، و ما سواه ليس بشيء، و السوى عدم، و الواحد القهار وجود، فالذي يكتب من محبرة الجمع، أي يستمد من حضرة الجمع يكتب الأشياء كلها، و يستمد من الأشياء كلها، لمعرفته في الأشياء كلها، كانت قصيرة أو طويلة أو جودية أو عدمية و بالله التوفيق.

   و سبب البركة في العمر هو عدم الشواغل و الشواغب، فمن كثرت شواغله و شواغبه لا بركة له في عمره، لأنه منع من تصريفه في طاعة مولاه بمتابعة شهواته و تحصيل مناه، و ما تفرغ من الشواغل، و لم يقبل على مولاه، فهو مخذول مصروف عن طريق استقامته و هداه كما أبان ذلك بقولــه في الباب الموالي.

 

عزائم التوجه إلى الله

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire