ما كان ظاهر ذكر إلا عن باطن شهود و فكر، أشهدك من قبل أن استشهدك فنطقت بألوهيته الظواهر و تحققت بأحديته القلوب و السرائر.

ما كان ظاهر ذكر إلا عن باطن شهود أو فكر

   قلت: إذا كان الظاهر مشتغلا بذكر الله، فهو علامة وجود محبة الله في الباطن، إذ من أحب شيئا أكثر من ذكره، و لا تكون محبة إلا عن ذوق و معرفة، فلا يكون ظاهر ذكر إلا عن باطن شهود، أي شهود كان، و إن كان لا يشعر بشهوده، فما ذكرت الروح حتى فنيت، و لا فنيت حتى شهدت، فكل من فني في ذكر الله فإن روحه شهدت جمال الحضرة، أو نفرت في جمال المذكور و بهائه، أو في حسن ثوابه و جزائه.

   فتحصل أن وجود الذكر في الظاهر ناشئ إما عن شهود في الباطن، و هو حال المريدين أو العارفين أو ناشئ عن فكرة، و هو حال الطالبين للجزاء، فإن الناس في الذكر على ثلاثة أقسام:

   قسم يطلبون الأجور، و قسم يطلبون الحضور، و قسم وصلوا و رفعوا الستور.

 

أشهدك من قبل أن استشهدك، فنطقت بألوهيته الظواهر،

و تحققت بأحديته القلوب و السرائــر

   قلت: الروح في أصل ظهورها في غاية الطهارة و الصفاء، فحين أبرزها الله تعالى في عالم الذر، كانت عالمة داركة، فأشهدها الله تعالى عظمته و جلاله و بهاءه و كمال وحدانيته، فقال لها حينئذ: ألست بربكم، قالوا بلى، فكلها أقرب بالربوبية، فلما ركبها في هذا القالب، فمنها من أقرت بذلك العهد، و منها من جهلت و أنكرت، فقد أشهدك الحق تعالى حين كنت في عالم الأرواح ربوبيته و وحدانيته، فعلمتها و حققتها من قبل أن يستشهدك، أي يطلب منك تلك الشهادة، فحين طلبها منك وجد روحك عالمة، فنطقت بألوهيته التي عرفها في عالم الذر ألسنة الظواهر، و تحققت بأحديته التي شهدتها قبل تركيب القلوب و السرائر، فكل ما ظهر من الإقرار بالربوبية في عالم الشهادة، فهو فرع الإشهاد المتقدم في عالم الغيب، و كل ما ظهر من التحقق بالأحدية للقلوب فهو فرع العلم السابق في علم الغيوب، و الواجب على العبد أن يكون جامعا بين إقرار الظاهر و توحيد الباطن، فالأول فرق و الثاني جمع، و إلى هذا المعنى أشار الجنيد بقولـه:

قــد تحققـــت بســري            حيــن ناجـاك لســانــي

فاجتمعنــــا لمعــــان             و افترقنـــا لمعــانــــي

أن يكـون غيبـك التعـظـيم              عـن لحـــظ عيــانـــي

  فلقــد صيـرك الـوجــد           مـن الأحشـاء دانــــــي

   ثم بين كرامات الذكر المتقدم فقال:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire