لا يعلم قدر أنوار القلوب و الأسرار إلا في غيب الملكوت، كما لا تظهر أنوار السماء إلا في شهادة الملك.

   قلت: اعلم أن الناس كلهم عندهم النور في قلبهم بدليل قوله صلى الله عليه و سلم:" كل مولود يولد على الفطرة"، أي على أصل النشأة الأولية، و هي القبضة النورانية، و قال تعالى:( ﮩ  ﮪ  ﮫ   ﮬﮭ  )، قال أهل تفسير الظاهر، أي نور أهل السماوات و الأرض و هو عام في كل موجود فيهما، فقد تحقق أن النور سار في الجميع، فمن الناس من حجب عن هذا النور و عمي عنه و هو من وقف مع ظاهر الملك، و هو قشر الكون و حسه الظاهر، و يسمى عالم الأشباح، و لم ينفذ إلى باطنه و هو الملكوت و يسمى عالم الأرواح، فهذا محجوب عن نوره الباطني، لا يرى إلا النور الحسي، لأنه مسجون في سجن الأكوان، محصور في ظلمة الحس و الوهم.

   و من الناس من نفذت بصيرته إلى شهود النور الباطني فيه، و لم يقف مع القشر بل نفذ إلى شهود اللب، و هو نور الملكوت و أسرار الجبروت، و هو الذي أشار إليه في المباحث بقوله:

مهما تعديـت عـن الأجســام             أبصـرت نور الحــق ذا ابتســام

   و هذا النور أيضا هو الذي تراه قلوب العارفين دون الغافلين كما أشار إليه الحلاج بقوله:

قلوب العارفيـن لها عيــون           تـرى ما لا يـرى للناظريــن

   فإذا تحققت هذا علمت أنه لا يعلم بالبناء للمفعول، أي لا يظهر قدر أنوار القلوب الغيبية و شرفها و أنوار الأسرار القدسية و كمالها إلا في غيب الملكوت و الجبروت، فأنوار القلوب لا يعلم قدرها إلا في غيب الملكوت، و هي الأنوار المتدفقة في بحار الجبروت، فمن لم ينفذ إلى شهود الملكوت لم يعلم قدرها، بل لم يعرفها أصلا، و أنوار الأسرار لا يعلم قدرها إلا في غيب الجبروت، و هي الأنوار الأصلية الأزلية، و هو ما لم يدخل عالم التكوين.

   فمكن كان محجوبا في عالم الملك لا يعلم قدر أنوار الملكوت، لا يعلم قدر أنوار الجبروت، و من نفذ منهما شهد الجميع، و كما لا تظهر الأنوار الغيبية إلا في غيب الملكوت أو الجبروت، كذلك لا تظهر أنوار الملك، و هي الأنوار الحسية، إلا في عالم الشهادة، و هو عالم الحس، و يسمى عالم الملك.

   و الحاصل أن أنوار القلوب هي أنوار الملكوت، و أنوار الأسرار هي أنوار الجبروت، و هي غيبية لا يعلم قدرها إلا من ترقى إلى عالم الملكوت أو الجبروت، فحينئذ يعلم قدرها علما و حالا، و الله تعالى أعلم.

   تنبيـه، قد رأيت كثيرا ممن شرح هذا الكتاب غلط في تفسير الملك و الملكوت و الجبروت، فزعموا أن الملك هو عالم الدنيا و الملكوت هو علم الآخرة و الجبروت ما لا يعلمه أحد، و هذا غلط، إذ لو كان كما زعموا لما صح الترقي من ملك إلى ملكوت، و إلى جبروت، إذ يلزم على تفسيرهم أن الملك لا يرجع ملكوتا، و الملكوت لا يرجع جبروتا، و هو غير سديد، إذ قد نص كثير من المحققين أن أهل الملكوت لا يرون الملك أصلا، و أهل الجبروت يحجبون عن الملكوت، هكذا ذكره النقشبندي في شرح الهائية.

   و الصواب أن المحل واحد و هو الوجود الأصلي و الفرعي، فما لم يدخل عالم التكوين من عظمة الباري تعالى فهو عالم الجبروت، و ما دخل التكوين، فمن ألحق بأصله و جمع فيه فهو في حقه ملكوت، و من فرقه و حجب به فهو في حقه ملك، فتحصل أن المحل واحد و الأمر إنما هو اعتباري، تختلف التسمية باختلاف النظرة، و تختلف النظرة باختلاف الترقي في المعرفة، فمن وقف مع الكون كان في حقه ملكا، و من نفذ إلى شهود النور الفائض من الجبروت، إلا أنه رآه كثيفا نورانيا، و لم يضمه إلى أصله في اللطافة سمي في حقه ملكوتا، و من ضمه إلى أصله و لم يفرق بين النور الكثيف سمي جبروتا، و قد حققت ذلك في قصيدتي التائية، و تقدم بعضها، و كذلك في شرح التصلية المشيشية، و الله تعالى أعلم.

   و لا بد لمن أراد أن تكشف له هذه الأنوار و يدرك هذه المقامات من وجود أعمال و مقاسات أحوال، فإذا عمل عملا و ذاق حلاوته فليستبشر بالفتح الذي هو جزاء السائرين، و هو الذي أشار إليه بقوله في الباب الموالي:

ثمرة المجاهدة

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire