لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية، إنما مثل الخصوصية كإشراق شمس النهار، ظهرت في الأفق و ليست منه،

لا يلزم من وصف الخصوصية عدم وصف البشرية

    قلت: المراد بالوصف البشري ما جعله الله محتاجا إليه بحكمته في قوام بدن الإنسان من أكل و شرب و لباس و مسكن، و ما فطره عليه من شهوة مباحة كنكاح و شهوة غير محرمة، فهذه الأوصاف لا ينافي وجودها وجود الخصوصية، فقد قال تعالى في الرسل: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)و قال تعالى:( ﮜ   ﮝ  ﮞ  ﮟ  ﮠ  ﮡ  ﮢ  ﮣ  ﮤﮥ).

   نعم وصف البشرية في حق أهل الخصوصية، ليس هو كغيرهم، لأن أهل الخصوصية أمرهم كله بالله، انقلبت حظوظهم حقوقا، بخلاف غيرهم، أنفسهم غالبة عليهم، فتقلباتهم كلها في حظوظ أنفسهم.

   فإذا تقرر هذا علمت أنه لا يلزم من ثبوت الخصوصية، و هي الولاية المعرفة، أو الحرية، و معناها واحد، عدم وصف البشرية، فالخصوصية محلها البواطن و وصف البشرية محلها الظواهر، و لذلك اختفت الأولياء و الأنبياء و الرسل عن الناس لظهور أوصاف البشرية عليهم، فكيف تعرف رجلا يأكل كما تأكل و يشرب كما تشرب، و ينام و يتزوج النساء، فلا يعرفهم إلا من أراد الله سعادته، و ما وقع الإنكار على الأنبياء إلا لاعتقادهم أن أوصاف البشرية تنافي ثبوت الخصوصية، فقد قال الكفار في حقه عليه السلام: ( ﮒ   ﮓ  ﮔ  ﮕ  ﮖ  ﮗ    ﮘ  ﮙ  ﮚﮛ   ) فرد الله عليهم بعدم تنافيها: (ﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧ     ﯨ    ﯩ    ﯪ   ﯫ  ﯬ  ﯭﯮ  ﯯ  ﯰ   ﯱ    ﯲ  ﯳﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ)  .

   فهذه الأوصاف التي ذكرنا لا ينفك الطبع البشري عنها، و هي موجودة مع خصوصية النبوة و الولاية، و أما الأوصاف التي هي مذمومة كالحسد و الكبر و البغض و العجب و الرياء و الغضب و القلق و خوف الفقر و هم الرزق و التدبير و الاختيار و غير ذلك، فهذه لا بد من التطهير منها في خصوصية النبوة و الولاية، و قد تقدم قوله: اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك لتكون لنداء الحق مجيبا و من حضرته قريبا.

   أما في حق النبي فتطهيره منها واجب لأنه معصوم من جميع النقائص، و أما في حق الولي فليس بواجب، لكنه محفوظ، فقد يصدر منه شيء من هذه الأوصاف المذمومة على سبيل الهفوة و الزلة، و لا تنافي وجود خصوصيته، لكنه لا يصر عليها و لا يدوم فيها، فقد يصدر من الولي الغضب و القلق و التدبير و غير ذلك، لكنه كالريح يضرب و يسرح، قال في النصيحة الكافية: و قد تكون للولي هفوة و هفوات، و زلة و زلات، و لكن لا يصر عليها، و قيل للجنيد: أيزني العارف، فسكت، ثم قال: و كان أمر الله قدرا مقدورا، قال ابن عطاء الله: ليت شعري، لو قيل له: أتكون همة العارف مع غير الله لقال لا /.

نور الخصوصية مع ظلمة البشرية

 

 

إنما مثل الخصوصية، كإشراق شمس النهار، ظهرت في الأفق و ليست منه،

تارة تشرق شمس أوصافه على ليل وجودك و تارة يقبض ذلك عنك فيردك إلى حدودك، فالنهار ليس منك إليك، و لكنه وارد عليك

   قلت: مثل نور الربوبية الذي أشرقه الله في قلوب أوليائه، و ستره بظهور البشرية، كمثل نور الشمس إذا أشرق على الآفاق، و هو الفضاء الذي بين السماء و الأرض، فإن الفضاء قبل ظهور الشمس مظلم ليس فيه نور، فإذا أشرقت عليه الشمس رجع نورا صافيا، فنور آنيته ليست من ذاته، و إنما هي من الشمس، كذلك نور الربوبية، هو مستودع في باطن البشرية، فإذا أراد الله تعالى أن يظهر خصوصية عبده أشرق ذلك النور على ظاهر بشريته، فتستولي نور روحانيته على بشريته، فلا يبقى للبشرية أثر، فتصير البشرية كلها نورا، فنور البشرية ليس منها و لكنه وارد عليها، فتارة تشرق شموس أوصافه، و هي الوجود و القدم و البقاء، و سائر أوصافه السلبية، و الوجودية، و المعاني، و المعنوية على ليل وجودك الظلماني الكثيف، فتذهب أوصافك الحادثة العدمية بظهور أوصافه القديمة الأزلية، فيتحقق الوصال و يذهب الانفصال، و تارة يقبض ذلك النور، و يغيبه عنك و يرده إلى باطنك، فترجع إلى شهود عبوديتك، و يردك إلى حدودك.

   و هذا حال الوارد الإلهي، إذا فاض على الإنسان غيبه عن نفسه و اقتطعه عن حسه، فلا يرى إلا أوصاف ربه و ينكر وجود نفسه من أصله، فإذا سكن الوارد رجع إلى شهود نفسه بربه، و رجع ذلك النور إلى باطنه، فيكون ذلك باطنه نورا على الدوام، و ظاهره تارة يغلب عليه ذلك النور، و تارة تغلب عليه الظلمة أي العبودية.

   فنور الوارد ليس من الإنسان من حيث بشريته، و لكنه وارد عليه من حيث روحانيته، كما أن نور الأفق ليس هو من ذات الأفق، لكنه وارد عليه من إشراق شمس النهار عليه.

   و ها هنا مثال آخر، و هو الحديد و الفحمة، إذا جعلتهما في النار و نفخت عليهما فإنهما يرجعان من جنس النار، و تكسو النار الحديد كله و الفحمة كلها، فإذا برد رجع الحديد حديدا و الفحمة فحمة، كذلك البشرية، إذا استولت عليها الروحانية صارت كلها روحانية معنوية، فلا ترى إلا المعاني و لا تحس إلا إياها.

   و اعلم أن الناس في هذا النور على ثلاثة أقسام: قسم نوره حده الباطن و لم يصعد من نوره شيء لظاهره و هم العوام.

   وقسم استولى نورهم على ظاهرهم و باطنهم و هم المجذوبون في حضرة الله،

   و قسم امتلأ باطنهم نورا، و صعد شعاعه على ظواهرهم، فاستولى على الظاهر على الدوام، و هم السالكون بعد الجذب، الراسخون في المعرفة، و الله تعالى أعلم.

  

الطريقة الموصلة إلى الخصوصية

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire