ليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضا، أو يطلب منه غرضا، فإن المحب من يبذل لك، ليس المحب من تبذل له.

ليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضا و يطلب منه غرضــا

   لا شك أن المحبة التي تكون على الحروف و الحظوظ ليست محبة، و إنما هي مصانعة لقضاء الحاجة، فمن أحب أحدا ليعطيه أو ليدفع عنه فإنما أحب نفسه، إذ لولا غرض نفسه فيه ما أحبه، قال أبو محمد رويم رضي الله عنه: من أحب العوض نغص العوض إليه محبوبه، و أيضا فطالب العوض إنما هو بائع يريد أن يعطي لينال، و المحب مقتول في محبة سيده لا يعرج على سواء مرضاته، و في معنى ذلك قيل:

بني الحب على الجـور فلــو          انصـف المحبـوب فيـه لسمـح

ليس يستحـسن فـي حكم الهوى         عاشـق يطلـب تأليف الجمـــع

   و مما لا يستحسن أيضا في حكم المحبة و الهوى إظهار الحزن أو الكآبة من أجل الجفاء من المحبوب، أو الشكوى بذلك بل الواجب هو التجلد و التصبر على جفاء المحبوب حتى يظفر بالمطلوب، و في ذلك قيل:

                إن شكوت الهوى فمـا أنـت منـا            احمل الصـد و الجفا يا معنـا

                 تدعي مذهـب الهـوى ثم تشكـو             أي دعواك في الهوى قل لي  أينا

                 لو وجدنـاك صابـرا لهـوانــا              لأعطيناك كـل ما تتمنـــا

                  فـدرك المعلـــوم و المجهـول             حيث اقتضى لتركهـا قبــولا

 

   قلت/ فإذا دخل الفقير الخلوة، فينبغي أن يستعمل معها العزلة، و هي عزلة القلب، فالخلوة للأشباح و العزلة للقلوب، فلا بد فيها من التفرغ الكلي، و إلا لم ينتفع بها، و في الحكم، ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة، فالمقصود من الخلوة هو دواء القلب، و لا يشفى القلب إلا إذا تفرغ من الأخلاط الرديئة، فإن القلب كالمعدة، كلما كثرت عليه الأخلاط مرض، و هي الخواطر و الشواغب، فإذا تفرغ القلب نفعه الذكر و إلا فلا، ثم لا يزال مستعملا للذكر لهجا به حتى يصمت اللسان و يبقى الجنان ذاكرا، و ينبغي أن يستثبت الجنان ما يذكره اللسان، فإن ذكر اللسان بلا جنان قليل النهوض إلى حضرة العيان، ثم لا يزال يذكر بلسانه و يستثبته بجنانه حتى يجري معناه في فؤاده، و يتمكن نوره في قلبه، ثم يجري ذلك في جميع أعضائه كما يجري الدم في سائر جسده، و كما يجري الماء في الأغصان الرطبة، فيكون البدن كله يتحرك بذكر الله .

   و لقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول: بقيت أربع سنين نذكر الاسم المفرد حتى كان البدن كله يتحرك بالذكر، فكنت إذا وضعت يدي على فخدي لنسكنه تحرك الفخد الآخر، و إذا وضعت يدي على الفخد الآخر تحرك الآخر/.

  فإذا صفت مرآة القلب و تجوهرت، فعند ذلك يحاذيها لوائح الغيوب، و هي أنوار المواجهة تقدمة لأنوار المشاهدة، لأن المشاهدة تكون لوائح ثم طوالع، ثم تشرق شمس العرفان، فما لها غروب عن العيان، فعند ذلك يكاشف بحقائق الأشياء، فيدرك سر كل موجود، و يعلم حقيقة كل معلوم و كل مجهول، يعني ما كان مجهولا صار عنده معلوما، و ما كان عنده معلوما أدرك سره و حكمته، و هنا يطلع على سر المتشابهات، فتتسع عليه دائرة العلوم و تخرق له مخازن الفهوم و يخرج إلى فضاء الشهود، و قال آخــر:

الحب دينـي فـلا أبغي به بــدلا         و الحسن ملـك مطـاع جار أو عـدلا

و النفس عـزت و لكن فيـك أبذلهـا         و الذل مرّ و لكن فـي رضاك حـلا

يا من  عذابي عذاب   فـي  محبتــه         لا أشتكي منك لا صـدا و لا ملـلا

 

   و إن شئت قلت أن المحبة هي أخذ الرب بقلب العبد بحيث لا يلتفت إلى غيره، أو أخذ جمال المحبوب بمحبة القلب حتى لا يجد مساغا للالتفات لسوى المحبوب، فمتى وقع الالتفات نقص الحب على قدره، قال بعض الناس لامرأة: إني أحبك فقالت: و كيف و خلفك من هو خير مني، فالتفت، فقالت: قبحك الله من محب، تدعي المحبة و تلتفت للغير.

   و كذلك العبد إذا ادعى محبة سيده، ثم أحب شيئا أو استحسن شيئا من السوى، أو اشتكى شيئا، أو خاف شيئا سوى محبوبه، فهو ناقص المحبة أو مدعيها، و من ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

   ثم علل الشيخ كون المحبة على العوض مدخولة فقال:

 

فإن المحب من يبذل لك، ليس المحب من تبذل له

   قلت: المحب في الشيء هو الذي يبذل نفسه فيه و فلسه، و يزهد في جنسه من أجله، و لا يصح ذلك على التمام إلا في جانب الذي أسبغ عليك سوابغ الإنعام، أنعم عليك أولا بنعمة الإيجاد، و ثانيا بالإمداد، و أعطاك كل ما تريد، و ملكك الكون كله تتصرف فيه كما تريد قال تعالى:( و آتاكم من كل ما سألتموه) و قال تعالى:( خلق لكم ما في الأرض جميعا) فهذا سبب محبة العوام، و أم محبة الخواص فهي ناشئة عن شهود جماله و بهائه، فغابوا في شهود جماله و تاهوا في حضرة بهائه، و أنشدوا:

يا ساقــي القـوم من شـذاه             الكل لمـا سقيــت تـاهـــوا

غـابوا بالسكـر فيـك طابـوا            و صرحـوا بالهـوى و فـاهـوا

 

   فهؤلاء باعوا أرواحهم في طلب مولاهم، ثم استقلوا ما باعوا و استحيوا مما بذلوا لقلة ما أعطوا في جانب ما طلبوا، و في ذلك، و يصير حاكما بسره على الوجود، فلا تقله أرض و لا تظله سماء، قد فتحت له ميادين الغيوب، و تطهر من جميع المساوئ و العيوب، فما تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.

   فقوله فيصمت اللسان و هو يجري، يعني أنه ينطبع الذكر في القلب انطباعا كليا حتى يجري الذكر على القلب، و لو سكت اللسان، و هذا هو المقصود من الذكر و قوله: و قدر ما تجوهر...، يحتمل أن يكون إنشاء و معناه الأمر باستثبات القلب عند ذكر اللسان، أي، و يستثبت الجنان ما ذكره اللسان،، فيكون بقدر ما تجوهر اللسان يستثبته، و يحتمل أن يكون إخبارا و معناه، و بقدر ما يتجوهو اللسان بالذكر يدخل في القلب فيستثيته، فيكون فيه الحض على ذكر اللسان لعله يدخل الجنان، و الاحتمال الأول فيه الحض على الحضور عند ذكر اللسان، و هو أولى، لأن ذكر اللسان إذا لم تصحبه مجاهدة لا يفضي إلى القلب و لو كثر.

   و قوله: ثم جرى معناه في الفؤاد، يعني أنه ينصبغ القلب بمعنى الذكر حتى لا ينفك عنه، و هي الطمأنينة بذكر الله.

   و قوله: فعندما حاذى مرآة القلب، أي، فعند انصباغ القلب بالذكر، و طمأنينته به يحاذي مرآت قلبه الصافية المجلوة انوار الغيوب، و هو الذي أراد بقوله: لوح الغيوب، و تسمى اللوائح، و إنما قصره للوزن، فإذا اطلعت له لوائح الغيوب ظهر ما كان مختبئا، أي خفيا من أنوار الشهود، فانطوى عند ذلك وجود كل موجود، و في ذلك قال الششتري:

لقـد تجلـى ما كـان مخبــي          و الكـون كـل طويت طــيّ

منـي علـيّ دارت كــؤسـي          مـن بعـد موتـي تراني حـيّ

   و في بعض النسخ، فندما حاذى أمير القلب، أي، و هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي، فعند جري الذكر في الفؤاد، حاذى القلب الذي هو سلطان الجسد لوائح الغيوب، و في بعض النسخ بلفظ ما المصدرية بعد عند و العامل في الظرف يقول سلطان العشاق ابن الفارض رضي الله عنه:

لو أن روحي فـي يـدي و وهبتهـا          لمبشري بقـدومكم لـم أنصــف

ما لي سـوى روحي و باذل روحـه          في حب من يهـواه ليس بمـسرف

فلئن رضيت بها فقـد أسعفتنـــي           يا خيبة المسعى إذا لم تسعـــف

 

   قال الشيخ أبو عبد الله القرشي رضي الله عنه: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببته حتى لا يبقى لك منه شيء، و قال أبو يعقوب السوسي: حقيقة المحبة أن ينسى حظه من الله و ينسى حوائجه إليه.

   و قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: المحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، و لا مشيئة له مع مشيئته، و قيل أول ما يقول الله للعبد، اطلب العافية و الجنة و العمل و غير ذلك، فإن قال: ما أريد إلا أنت قال له: من دخل في هذا معي، فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ، و رفع الحدوث و إثبات القدم، و ذلك يوجب له العدم، و في معنى ذلك قيل:

مـن لم بـك فانيا عـن حظـه             و عن الغنى و الأنس بالأحبـاب

فلأنـه بيــن المنازل واقـف              لمنـال حظ أو لحسن مــآب

   و بالجملة، فأمر المحبة كبير، و بحرها خطير، و في ذلك قالوا: ما خاضوا بحر الرباح حتى خاضوا بحر الخسارة، لا تنال إلا بذبح النفوس و ترك الفلوس.

إن ترد وصلنا فموتك شــرط             لا ينال الوصول من فيـه فضلــه

 

الباب التاسع و العشرون

سير السائرين في النفوس

   كيف يحقق سير السائرين في ميادين النفوس

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire