من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبر حقا، إذ ليس التواضع إلا عن رفعة، فمتى أثبتت لنفسك تواضعا فأنت المتكبر، إذ ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه فوق ما صنع و لكن المتواضع هو الذي إذا تواضع رأى أنه دون ما صنع.

من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبر حقا، إذ ليس التواضع إلا عن رفعة،

فمتى أثبت لنفسك تواضعا فأنت المتكبر

   قلت:التواضع هو مجاهدة النفس في وضعها و سقوطها، فهي تريد الرفعة و أنت تريد السقوط، فإذا حققت و نظرت بعين فكرتك، وجدت الأشياء كلها مستوية في الخلقة و التجلي من النملة إلى الفيل، فالمتجلي في النملة هو المتجلي في الفيلة، فأنت و الكلب في حقيقة الخلقة سواء، و إنما وقع التفضيل في التشريع و الحكمة عند أهل الفرق، فأهل الفرق يرون المزية لأنفسهم عما سواهم، فإذا تساووا بأنفسهم مع الأشياء رأوا أنهم قد تواضعوا، و في الحقيقة إنما تكبروا لأنهم أثبتوا المزية لأنفسهم و رفعوها، ثم أثبتوا لها التواضع، فهم المتكبرون على خلق الله حقا.

   و العارفون بالله لم يثبتوا لأنفسهم مزية قط، رأوا الأشياء كلها سواء خلقا واحدا و نورا واحدا، فلم يثبتوا لأنفسهم رفعا و لا وضعا، فهم متواضعون أول مرة، فتواضعهم حقيقي أصلي، فمن أثبت لنفسه تواضعا، و رأى أنها تواضعت دون قدرها، فهو المتكبر حقا حيث جعل لها قدرا زائدا على خلق الله، إذ ليس التواضع و إثباته للنفس إلا عن رفعة لها أولا، فمتى أثبت لنفسك أيها الفقير تواضعا فأنت المتكبر حقا، و لا تكون متواضعا حتى ترى الأشياء كلها مثلك، أو أحسن منك إن عصيت ربك.

   قال أبو يزيد: ما دام العبد يرى في الخلق أشر منه فهو متكبر، و لا يكون متواضعا حتى لم يثبت لنفسه حالا و لا مقالا، و قال بعضهم: من رأى لنفسه قيمة على الكلب فهو متكبر ممقوت عند الله، و إنما يتواضع العبد بقدر تحققه بعلو قدر سيده، و النفس إن لم تتصف بالذل و الهوان حقيقة، فهي غير مشاهدة لعظمة الله، لأن أصل نشأة النفس الذل و الهوان و الضعف، و لا صلاح إلا في الرجوع لأصلها و تبريها من رؤية العز و الجاه، و من تبريها من ذلك.

   قال الجنيد رضي الله عنه: من رأى نفسه قد تواضعت فهو يحتاج إلى تواضع و لو تبرأ منها و من تواضعها لكان متواضعا/.

   و في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم:( إنما الكرم التقوى و إنما الشرف التواضع و إنما الغنى اليقين، و المتواضعون في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة)، إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة، و لا يزيد التواضع للعبد إلا رفعة، فتواضعوا ليرفعكم الله، و إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم، و إذا رأيتم المتبرين من أمتي فتبروا عليهم فإن ذلك مذلة لهم و صغار بهم/.

   أوحى الله إلى موسى عليه السلام إنما أقبل عمل من تواضع لعظمتي و لم يتكبر على خلقي و ألزم قلبه خوفي، و قطع النهار بذكري، و كف نفسه عن الشهوات من أجلي/.

ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه فوق ما صنع،

و لكن المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه دون ما صنع

قلت: التواضع الحقيقي هو الذي ينشأ ممن يشاهد الأشياء كلها منه، فإذا تواضع معها رأى أنه تستحق أكثر من ذلك التعظيم، و إن نفسه من الدناءة و الذل دون ما صنع من التواضع، و ليس المتواضع الذي يرى لنفسه المزية على الأشياء، فإذا تواضع معها رأى أن نفسه فوق و أفضل مما صنع من التواضع، فهذا هو المتكبر، لأنه أثبت لنفسه تواضعا مما تستحقه، و هذه الحكمة كأنها بيان و تتميم لما قبلها.

   يحكى عن أبي الحسن بن الكرنبي، أستاذ الجنيد رضي الله عنهما، أن رجلا دعاه ثلاث مرات إلى طعامه ثم يرده، فيرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله داره في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك فقال: قد رضيت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد، ثم يدعى فيعود، و يرمى له عظم فيجيب، و لو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت.

   قال أبو طالب رضي الله عنه، و حدث عن بعض الصوفية أنه وقف على رجل يأكل فمد يده و قال، إن كان ثم شيء لله تعالى، فقال اجلس، فكل، فقال اعطني في كفي، فأعطاه في كفه فقعد في مكانه يأكل، فسأله عن امتناعه من الجلوس معه، فقال: إن حالي مع الله الذل، فكرهت أن أفارق حالي.

   و قال السهروردي، رأيت شيخنا ضياء الدين أبا النجيب، و كنت معه في سفره إلى الشام، و قد بعث له بعض أبناء الدنيا طعاما على رؤوس الأسارى من الإفرنج و هم في قيودهم، فمدت السفرة و قال للخادم: احضر الأسارى مع الفقراء، فجاء بهم و أقعدهم على السفرة صفا واحدا، و قام الشيخ من سجادته و مشى إليهم و قعد معهم كالواحد منهم و أكل و أكلوا، و ظهر لنا على وجهه ما نزل على باطنه من التواضع لله و الانكسار في نفسه و انسلاخه من التكبر عليه.

   و كان الشيخ عبد الرحمن بن سعيد من الفقهاء و العلماء العالمين، بينما هو يمشي في يوم شات كثير الطين، فاستقبله كلب يمشي على الطريق التي كان عليها قال من رآه، رأيت الشيخ لصق بالحائط و عمل للكلب طريقا و وقف ينتظره ليجوز، فلما قرب منه الكلب ترك مكانه الذي كان فيه و نزل أسفل و ترك الكلب يمشي فوقه، قال فلما جاوزه الكلب وصلت إليه فوجدته و عليه كآبة فقلت له: يا سيدي رأيتك الآن صنعت شيئا استغربته، كيف رميت بنفسك في الطين و تركت الكلب يمشي في الموضع النقي فقال لي، بعد أن عملت له طريقا تفكرت و قلت: ترفعت على الكلب و جعلت نفسي أرفع منه، بل هو و الله أرفع مني و أولى بالكرامة لأني عصيت الله تعالى، و أنا كثير الذنوب و الكلب لا ذنب له، فنزلت له عن موضعي و تركته يمشي عليه، و أنا الآن أخاف من الله ألا يعفو عني لأني رفعت نفسي على من هو خير مني/.نقله الشيخ ابن عباد رضي الله عنه.

   ثم إن التواضع منه ما يكون مجاهدة و تصنعا، و هو مجاهدة أهل اليمين من السائرين، و منه ما يكون اختيارا حقيقيا و هو تواضع العارفين، لأنه ناشئ عن شهود عظمة المعبود، فلا يتخلف إلا في وقت الغفلة و هو قليل، و هو الذي أبانه بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire