إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده، جعله لك عدوا ليحوشك به إليه، و حرك عليك النفس لتديم إقبالك عليه.

إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيــده

   قلت: اعلم أن الحق تعالى جعل بحكمته الشيطان و النفس و الناس حراس الحضرة، فلا يدخل الحضرة حتى يخرق فيهم و يجوز عنهم، لأنهم واقفون بالباب، وكلهم الله بباب حضرته و قال لهم، لا تتركوا أحدا يدخل إلا من يغلبكم، فوقفوا بالباب، فإذا جاء من يريد الدخول تعرض له الخلق فيبعدونه عن الطريق، و ينكرون من يعرفها، فإذا غلبهم جاء الشيطان يطول عليه مدة الفتح و يخوفه من الفقر و يقول له، متى يفتح الله عليك، قيل يكون و قيل لا، فإذا غلبه و زاد تعرضت له النفس تقول له،    كيف تترك دنياك و جاهك و عزك إلى شيء يكون أو لا يكون، فإذا غلبها قال له الحق، مرحبا بك و أهلا، و لكن القواطع لا يزول طمعها عنه حتى يسكن في الحضرة، و لذلك قالوا: و الله ما رجع من رجع إلا من الطريق، و أما من وصل فلا يرجع.

   و قال آخر:

                   و الله ما نشكر خليع                   و إن ثمل و إن صحـى

                   حتى يقطع في القطيع                 و يدور دور الرحـــى

                   و إن ثبت يسر سريع                 و إن شرب حتى امتحـى

 

   فإن كنت علمت أيها الفقير أو الإنسان، أن الشيطان لا يغفل عنك ساعة، لأن له بيتا في صدرك من جهة شمالك، فإذا غفلت عن ذكر الله وسوس، و إذا ذكرت الله انخنس، فإذا علمت ذلك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده، و هو الحق تعالى، فإذا اشتغلت بالله رده عنك و كفاك أمره، قال تعالى:( إن كيد الشيطان كان ضعيفا) و قد حذر الله تعالى منه في كتابه قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدوا فاتخذوه عدوا) ففهم قوم أن الشيطان لهم عدو فاشتغلوا بمحاربته، ففاتهم محبة الحبيب، و فهم قوم أن الشيطان لكم عدو، و أنا لكم حبيب، فاشتغلوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو، كما قال الشيخ أبو العباس، و قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: عداوة العدو حقا اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، فإذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب و نال عدوك مراده منك.

   و كتب الشعراني إلى شيخ له بالمغرب يشكو له إذاية الخلق، فكتب له الشيخ، لا تشتغل بمن يؤذيك قط، و اشتغل بالله يرده عنك، و قد غلط في هذا الأمر خلق كثير، و اشتغلوا بمن آذاهم، فطال الأذى مع الإثم، و لو أنهم رجعوا إلى الله لكفاهم أمرهم و لردهم عنهم و السلام، هكذا سمعت هذه الحكاية من الشيخ.

   و قال الشيخ زروق رضي الله عنه، و إنما يندفع الشيطان بالتوكل و الإيمان قال تعالى:( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون) ، و قيل الشيطان كلب، إن اشتغلت بمقاومته مزق الإرهاب و قطع الثياب، و إن رجعت إلى ربك صرفه عنك برفق، و قال ذو النون المصري رضي الله عنه: إن كان هو يرانا من حيث لا نراه، فالله يراه من حيث لا يرى الله، فاستعن بالله عليه/.

   قلت: و من عرف الله ذاب الشيطان من نوره، فلم يبق يعرف إلا الله، و لذلك قال بعضهم: نحن قوم لا نعرف الشيطان قيل له، أو ليس قد ذكره الله في كتابه، قال أجل، و لكن اشتغلنا بالله فكفانا أمره حتى نسيناه، و بالله التوفيق.

   ثم ذكر حكمة وجوده فقال:

جعلـه لك عـدوا ليحشـوك به إليــه

   قلت: لم يخلق الله شيئا عبثا، قال تعالى:( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك)، فإيجاد الشيطان له حكم، أولها انحياش عباده إليه، لأن العبد الضعيف إذا رأى عدوا يطلبه هرب إلى سيده و التجأ إلى حصنه فيكفيه أمره.

   ثانيا، قيام الحجة على عباده، فإذا خالفوا أمره قال لهم، اتبعتم عدوي و عصيتم أمري، قال تعالى: ( قل فلله الحجة البالغة)

   ثالثا، كونه منديلا للعار، نمسح فيه أوساخ الأقذار و كذلك النفس و الدنيا.

   رابعا، ظهور مزية المؤمن بمجاهدته و محاربته، فهذه حكم في تسليط الشيطان على الإنسان، و الله غالب على أمره و هو العليم الحكيم.

   (حكاية)، روي أن الشيطان تعرض لسهل بن عبد الله التستري و هو يضحك، فقال له سهل، مما ضحكك يا لعين، و قد أبلست و بئست من رحمة الله، فقال، يا سهل أنا شيء، و الله تعالى يقول: و رحمتي وسعت كل شيء، فقال سهل، إنه يقول: فسأكتبها للذين يتقون، فأين أنت من التقوى، فقال: التقوى صفة العبد و الرحمة صفة الرب، و أين الفاني من الباقي فلم يجد سهل جوابا.

   قلت، و قد يجاب بأن هذه الشبهة مبنية على النظر للفرق و إما على للجمع، فالرحمة و صفه و التقوى فعله، و فعله يقيد وصفه و الكل منه و إليه، لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.

   ثم ذكر حكمة ظهور النفس فقال:

و حرك عليك النفس ليديم إقبالك عليه

   قلت: إنما حرك الحق تعالى عليك النفس ليدوم إقبالك و توجهك إليه، لأن النفس لما غلبت عليها البشرية جرتها إليها، فهي دائما تهوي بها إلى أرض الشهوات، و أنت دائما تريد أن تعرج إلى سماء الحقوق و الواجبات، هي تريد أن تركن إلى أصلها من عالم الصلصال و الطين، و أنت تريد أن تردها إلى أصل روحانيتها في أعلى عليين، هي تريد السكون إلى عليم الأشباح، و أنت تريد أن ترقيها إلى عالم الأرواج، فهي دائما تريد التسفل و أنت دائما تريد الترقي.

   فهذا معنى دوام إقبالك عليه، و سيأتي لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين، فالنفس و الشيطان نعمتان في الباطن، إذ لولاهما ما تحركت إليه و ما تحقق سيرك إليه، و لذلك كان شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه إذا اشتكى إليه أحد بالنفس يقول: أما أنا فجزاها الله عني خيرا، ما علي إلا فضل الله و فضها، و الله ما ننسى جميلها، يشير لهذا المعنى الذي ذكرناه، و هما نقمتان في الظاهر لمن وقف معهما و حجب بهما.

   و الحاصل أن النفس و الشيطان و الدنيا و الناس قواطع لمن قطعوا به الطريق موصلا للحضرة لمن وقف للتحقيق، و سبق له من الله التوفيق، و النفس أصعب من الشيطان، لأنه عود متصل و أنت به شفيق، فهي أقبح من سبعين شيطانا في قطع الطريق.

   ذكر ابن القسطلاني عن أحمد بن سهيل رحمه الله أنه قال، أعداؤك أربعة، أولها الدنيا و سجنها الخلوة، و الثاني الهوى و سلاحه الكلام و سجنه الصمت، و الثالث الشيطان و سلاحه الشبع و سجنه الجوع، و الرابع النفس و سلاحها النوم و سجنها السهر، و قد نظم بعضهم هذه القواطع فقال:

إني بليـت بأربــع يرميننــي              بالنبـل عـن قـوس توتيـــر

إبليس و الدنيـا و نفسـي الهوى               يا رب أنت على الخلاص قديـر

   و قد ذكر هذه القواطع الشيخ، فذكر أولا الدنيا ثم الناس ثم الشيطان ثم النفس، لكن ذكرها على وجه توحيدي، و لم يذكرها على أنها سوى أو قواطع، و إنما ذكر أسرارها و حكمة وجودها، و لله دره ما أشد معرفته بالتوحيد، و أسرار التفريد نفعنا الله بذكره و خرطنا في سلكه آمين.

و هذا آخر الباب الرابع و العشرين، و حاصلها ذكر غاية النعيم، و هو شهود وجه الكريم، فمن تحقق به فلا تعتريه أحزان و لا هموم، ثم ذكر القواطع التي تقطع عنه، و هي الدنيا و ما يتعلق بها من رياسة و علم غير نافع و جاه و غيره، و الخلق و ما يتعلق بإذايتهم، و الشيطان و النفس، لكن ذكرهم على وجه التحقيق لا على وجه التشريع، فإذا تخلص من هذه القواطع في الحس أفضى إلى شهود نور عظمة ربه في تجلياته، فيتواضع مع الأشياء كلها لمعرفته فيها كما أشار إلى ذلك في الباب السابع و العشرين بعده.

 

البـاب الثامن و العشرون

في التواضــع

   من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبر حقا

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire