إن رغبتك البدايات زهدتك النهايات، و إن دعاك إليها ظاهر نهاك عنها باطن، إنما جعلها محلا للأغيار و معدنا لوجود الأكدار تزهيدا لك فيها.

إن رغبتك البدايات زهدتـك النهايـات

   قلت: الولاية التي لا تدوم كعز بمال أو جاه أو عشيرة، و غير ذلك من عز الدنيا، أولها حلو لمتعة النفس و وجود حظها فيها، و آخرها مر لفقد تلك الولاية، و لو بالموت، و لما يعقبه من الذل و الهوان، و لذلك قال عليه السلام:( نعمة المرضعة و بئست الفاطمة)

   فإن رغبتك في هذه الولاية التي تفنى حلاوة بدايتها، زهدتك فيها مرارة نهايتها، فإن غرتك بظاهر بهجتها فاعتبر بباطن حسرتها، فإن رغبتك فيها حلاوة إقبالها زهدتك فيها مرارة إدبارها.

   قال الشيخ أبو علي الثقفي رضي الله عنه: أف لأشغال الدنيا إذا أقبلت، و أف من حسرتها إدا أدبرت، و العاقل لا يركن إلى شيء، إذا أقبل كان فتنة و إذا أدبر كان حسرة، و أنشدوا في ذلك:

و من يحمد الدنيا لشـيء يـسـره          فسوف لعمري عن قريب يلــومهـا

إذا أدبرت كانت على المرء حسرة           و إن أقبلت  كانت كثيرا همومهـــا

   و كتب علي كرم الله وجهه إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه: مثل الدنيا كمثل الحية، لين لمسها قاتل سمها، فأعرض عن كل ما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك فيها، و دع عنك همومها لمّا تيقنت من فراقها، و كن أسرّ ما تكون فيها، أحزن ما تكون منها، فإنّ صاحب الدنيا كلما اطمأن إلى سرورها أشخص إلى مكروهها.

   و قيل الدنيا أحلام منام، و سرورها ظل غمام، أحداثها سهام و فتنتها طوام، أي أمواج، وسمها الله بالوحشة، و قرنها بالفجائع و الدهشة، ثم أوحى لها يا دنيا تشددي على أوليائي و توسعي على أعدائي، فمن نظر إلى الدنيا بعين الإنصاف كفاه منها أقل الأوصاف، إذ ليس فيها شيء محدود إلا و قابله شيء مذموم، كالمال بالانصراف و الذهاب، و الشباب بالهرم و الصحة بالسقم، و الفرح بالحزن، و العز بالذل، و الحياة بالموت.

   قلت: حكي عن الولي الصالح سيدي قاسم بن صبيح من قبيلة بني سعيد، أنه قصد إذايته بعض الحكام، ففر إلى سيدي الغزال بترغة، فجلس عند ضريحه مشتكيا بلسان حاله، فمد له من القبر بعود الريحان كاغدا مكتوبا لم يجف مداده فيه هذان البيتان:

إذا ما رمـاك الدهر يومـا بنكبـة            فهيء له صبرا و وسـع له صـدرا

لأن تصاريـف الزمـان كثـيـرة            فيوما ترى عسرا و يوما ترى يسـرا

   فمن وقف مع ظاهر الدنيا نادته هواتف باطنها إنما نحن غرة، فلا تغتر، و هذا  معنى قولـه:

إن دعاك إليها ظاهر نهاك عنها باطــن

   قلت: ظاهرها خضرة حلوة، و باطنها خبيثة مرة، قال عليه الصلاة و السلام:" الدنيا خضرة حلوة و عن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم حطبا"الحديث، فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ظاهر الدنيا خضرة حلوة، و باطنها سم قاتل، و قد شبه بعض الحكماء الدنيا بسبعة أشياء، شبهها بالماء المالح يغرق و لا يروي و يضر و لا ينفع.

   قلت: و كذلك الدنيا تغرق صاحبها في حب الدنيا و يموت عطشا منها.

   و شبهها بظلام الغمام يغر و يخذل، قلت: و هو الذي يغطي بعض المواضع فإذا أشرقت الشمس تقشع عنه.

   و شبهها بالبرق الخاطف، يعني في سرعة الذهاب و الاضطراب، و بسحاب الصيف يضر و لا ينفع، و بزهر الربيع يغر بزهره، ثم يصفر فتراه هشيما، و بأحلام النائم يرى السرور في منامه، فإذا استيقظ لم يجد في يده شيئا إلا الحسرة، و بالعسل المشوب بالسم الزعاف يغر و يقتل/.

   قال حفيده: فتأملت هذه الحروف السبعة سبعين سنة ثم زدت فيها حرفا واحدا، فشبهتها بالغول التي تهلك من أجابها، و تترك من أعرض عنها/.(نقلها ابن عباد رضي الله عنه)

   ثم علل كون الدنيا محلا لهذه الأكدار و الأغيار فقال:

إنما جعلها محلا للأغيار و معدنا لوجود الأكدار تزهيدا لك فيها

   قلت: إنما وسم الله الدنيا بهذه الأوصاف من كونها محلا للأغيار و الأحزان، و معدنا لوجود الأكدار و الفتن تزهيدا لك فيها، فتقبل بكليتك عليه و تتوجه بهمتك عليه، أو لتعرض عن الدنيا و تقبل على الآخرة، قال بعضهم:

   إن مثل الدنيا كالبحر الهائل المحيط، و الآخرة من وراء ذلك البحر، و لا ينكشف الحجاب عن عين القلب بالنظر إلى الدار الآخرة إلا بعد الجواز على ذلك البحر، و لا ينكشف الحجاب عن عين القلب بالنظر للدار الآخرة إلا بعد الجواز على ذلك البحر في سفن الصبر و الرضا، لأنه بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، يغشاه موج الشهوات من فوقه موج الغفلات من فوقه سحاب الكائنات.

ذوقك من ذواقها ما سهل عليك فراقها

   و أيضا لو بسط لك الدنيا لكرهت لقاء الله، فيكره الله لقاءك، و لو بسطت لك العوافي و النعم لركنت الروح إلى هذا العالم، فتبقى دائما في عالم الأشباح، و المقصود منك هو الرحيل إلى عالم الأرواح، فضيق الحق تعالى عليك هذا العالم السفلي، لترحل منه بهمتك إلى العالم العلوي، فهو منه سبحانه إنعام و إحسان، لكنها في قالب الامتحان، فلا يذوقها إلا أولوا البصائر الحسان، و هذا ما أشار إليه بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire