إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، و إرادتك الأسباب مع إقامة الله في التجريد انحطاط عن الهمة العليــة.

   التجريد في اللغة هو التكشيط و الإزالة ، تقول جردت الثوب أزلته عني ، و تجرد فلان أزال ثوبه ، و جردت الجلد أزلت شعره .

   و أما عند الصوفية ، فهو على ثلاثة أقسام : تجرد الظاهر فقط ، أو تجرد الباطن فقط ، أو هما معا

   فتجريد الظاهر هو ترك الأسباب الدنيوية ، و خرق العوائد الجسمانية ، و التجريد الباطني هو ترك العلائق التفسانية و العوائق الوهمية ، و تجريدهما معا هو ترك العلائق الباطنية و العوائد الجسمانية .

   أو تقول : تجريد الظاهر هو ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله ، و تجريد الباطن هو ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله ، و تجريدهما هو إفراد القلب و القالب لله ، و التجريد الكامل في الظاهر هو ترك الأسباب و تعرية البدن من معتاد الثياب ، و في الباطن هو تجريد القلب من كل وصف ذميم ، و تحليته بكل وصف كريم ، و هو التجريد الكامل الذي أشار إليه شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب بقوله :

أقاريين علم التوحيد
 

هنا البحور اللي تغبي
  

هذا مقام أهل التجريد
 

الواقفين مع ربي
  

   و أما من جرد ظاهره دون باطنه ، فهو كذاب ، كمن كسا النحاس بالفضة ، باطنه قبيح و ظاهره مليح ، و من جرد باطنه دون ظاهره فهو كمن كسا الفضة بالنحاس ، و هو قليل ، إذ الغالب أن من تنشب ظاهره تنشب باطنه ، و القوة لا تكون إلا في الجهتين ، و من جمع بين تجريدي الظاهر و الباطن فهو الصدّيق الكامل ، و هو الذهب الصافي ، الذي يصلح لخزانة الملك ، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :

   آداب الفقير المتجرد أربعة: الحرمة للأكابر، و الرحمة للأصاغر، و الإنصاف من نفسك، و عدم الانتصار لها.

 

   و آداب الفقير المتسبب أربعة: موالات الأبرار، و مجانبة الفجار، و إيقاع الصلاة في الجماعة، و مواساة الفقراء و المساكين بما يفتح عليه.. و ينبغي له أن يتأدب بآداب المتجردين إذ هو كمال في حقه، و من آداب المتسبب إقامته فيما أقامه الحق تعالى فيه من فعل الأسباب حتى يكون الحق تعالى هو الذي ينقله منها على لسان شيخه إن كان، أو بإشارة واضحة كتعذرها من كل وجه، فحينئذ ينتقل للتجريد، فإرادته التجريد مع إقامته تعالى له في الأسباب من الشهوة الخفية، لأن النفس قد تقصد بذلك الراحة، و لم يكن لها من اليقين ما تحمل به مشاق الفاقة، فإذا نزلت بها الفاقة تزلزلت و اضطربت و رجعت إلى الأسباب، فيكون أقبح من الإقامة فيها، فهذا وجه كونها شهوة، و إنما كانت خفية لأنها في الظاهر أظهرت الانقطاع و التبتل، و هو مقام شريف، و حال منيف، لكنها في الباطن أخفت حظها من قصد الراحة، أو الكرامة، أو الولاية، أو غير ذلك من الحروف، و لم تقصد تحقيق العبودية و تربية اليقين، و فاتها أيضا الأدب مع الحق حيث أرادت الخروج بنفسها، و لم تصبر حتى يؤذن لها، و علامة إقامتها فيها دوامها له مع حصول النتائج، و عدم العوائق القاطعة له عن الدين، و حصول الكفاية، بحيث إذا تركها حصل له التشوف إلى الخلق، و الاهتمام بالرزق، فإذا انخرمت هذه الشروط انتقل إلى التجريد..

   قال في التنوير: و الذي يقتضيه الحق منك أن تمكث حيث أقامك حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجك كما تولى إدخالك، و ليس الشأن أن تترك السبب، بل الشأن أن يتركك السبب..

 

   قال بعضهم: تركت السبب كذا و كذا مرة فعدت إليه، فتركني السبب فلم أعد إليه.. قال : و دخلت على الشيخ أبي العباس المرسي و في نفسي العزم على التجريد، قائلا في نفسي: إن الوصول إلى الله تعالى على هذه الحالة التي أنا عليها بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر و وجود المخالطة للناس، فقال لي من غير أن أسأله: صحبني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة و متصدر فيها، فذاق من هذا الطريق شيئا، فجاء إلي فقال لي: يا سيدي أخرج عما أنا فيه و أفرغ لصحبتك، فقلت له: ليس الشأن ذا، و لكن امكث فيما أنت فيه، و ما قسمه الله لك على أيدينا فهو لك واصل، ثم قال الشيخ : و نظر إلي، و هكذا شأن الصديقين لا يخرجون من شيء حتى يكون الحق سبحانه هو الذي يتولى إخراجهم، فخرجت من عنده و قد غسل الله تلك الخواطر من قلبي، و وجدت الراحة بالتسليم إلى الله تعالى، و لكنهم كما قال صلى الله عليه و سلم : " هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " ..

   و قال رضي الله عنه : "إنما منعه من التجريد لشره نفسه إليه"، و النفس إذا شرهت للشيء كان خفيفا عليها، و الخفيف عليها لا خير لها فيه، و ما خف عنها لا حض لها فيه، ثم قال: و لا يتجرد المريد في حال القوة حتى تفوت، إن أراد أن يستفيد منه، فإن جردها في حال القوة أتاه الضعف، فيعقبه الخصمان، فيشوش و يفتن، و ربما إذا لم يدركه المولى بلطفه سامح في الخلطة، و يرجع إلى ما خرج منه، حتى يسيء ظنه بأهل التجريد و يقول "ليسوا على شيء، كلنا دخلنا البلد، و ما رأينا شيئا"، و الذي يثقل عليه التجريد، أولا هو الذي ينبغي له أن يتجرد لأنه ما ثقل عليها إلا حيث تحققت أن عنقها تحت السيف مهما حرك يده قطع أوداجها..

   و أما المتجرد إذا أراد الرجوع للأسباب من غير إذن صريح ، فهو انحطاط من الهمة العلية إلى الهمة الدنية، أو سقوط من الولاية الكبرى إلى الولاية الصغرى، قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه، قال لي شيخي سيدي العربي: يا ولدي لو رأيت شيئا أعلى من التجريد و أقرب و أنفع لأخبرتك به، و لكن هو عند أهل هذه الطريقة بمنزلة الإكسير، الذي قيراط منه يغلب ما بين الخافقين ذهبا، كذلك التجريد في هذه الطريقة.. اهـ

   و سمعت شيخ شيخنا رضي الله عته يقول: معرفة المتجرد أفضل، و فكرته أنصح، لأن الصفا من الصفا، و الكدر من الكدر، صفاء الباطن من صفاء الظاهر، و كدر الباطن من كدر الظاهر، و كلما زاد في الحسن نقص في المعنى، و في بعض الأخبار: إذا أخذ العالم شيئا من الدنيا نقصت درجته عند الله و إن كان كريما على الله، و أما من أذن له في السبب فهو كالمتجرد إذ صار حينئذ سببه عبودية، و الحاصل أن التجريد من غير إذن سبب، و السبب مع الإذن تجريد..

   (تنبيه) هذا الكلام كله مع السائرين، و أما الواصلون المتمكنون، فلا كلام عليهم، إذ هم رضي الله عنهم مأخوذون عن أنفسهم يقبضون من الله و يدفعون بالله، قد تولى الحق تعالى أمورهم، و حفظ أسرارهم، و حرس قلوبهم بجنود الأنوار، فلا تؤثر فيها ظلم الأغيار، و عليه يحمل حال الصحابة في الأسباب رضي الله عنهم، و نفعنا ببركاتهم آمين ..

   (واعلم) أن المتسبب و المتجرد عاملان لله، إذ كل واحد منهما حصل له صدق التوجه إلى الله حتى قال بعضهم: مثل المتجرد و المتسبب كعبدين للملك، قال لأحدهما اعمل و كل، و قال للآخر، الزم أنت حضرتي و أنا أقوم لك بقسمتي، و لكن صدق التوجه في المتجرد أقوى لقلة عوائقه، و قطع علائقه كما هو معلوم ..

   و لما كانت همة الفقير المتجرد لا تخطئ في الغالب لقوله صلى الله عليه و سلم: " إن لله رجال لو أقسموا على الله لأبرهم في قسمهم " ، قال شيخنا و لله رجال إذا اهتموا بالشيء كان بإذن الله، و قال أيضا عليه الصلاة و السلام:" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " خشي الشيخ أن يتوهم أحد أن الهمة تخرق سور القدر، و تفعل ما لم يجر به القضاء و القدر ، فرفع ذلك في قوله :

 

   السر في ذلك..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire