تطلعك إلى غيره دليل على عدم وجدانك له و استيحاشك لما سواه دليل إلى عدم وصلتك به.

تطلعك إلى بقاء غيره دليل على عدم وجدانك لــه

   قلت: إذ لو وجدته ما طلبت شيئا، و لا افتقرت إلى شيء أصلا، فكل من يفرح بالوارد و الحال فهو غير متحقق بالوصال، و كل من يفتقر لغير الله فليس بعارف بالله، و كل من يحتاج إلى شيء أو يركن إلى شيء فليس من الله في شيء و ليس على شيء، و كثيرا ما كنت نقول للفقراء، كل من ترونه يزور غير الشيخ بعد أن قبض الورد، فهو باق من العوام، و لم يدخل بلاد الخصوص لقلة صدقه، و لو دخل بلاد الخصوص لاجتمعت همته و انجمع قلبه و استغنى عن ماء غيره، فتعطشه إلى غير شيخه دليل على أنه لم يشرب من مائه، و لله در القائل: و يقال إنه الغزالي،

كانـت لقلبـي أهواء مفـرقـة           فاستجمت مذ رأتـه العيـن أهوائــي

فصار يحسدني من كنت أحسـده            و صرت  مولى الورى ما صرت مولائـي

تركت للناس دينهم و دنيـاهـم            شغلا بذكرك يا دينـي و دنيـائـــي

   و من علامة الغنى به أيضا الأنس به، و الوحشة من غيره، فالله يغني عن كل شيء و لا يغني عنه شيء، فإذا فقد حالا أو مقاما سوى شهود ربه، ثم استوحش منه، فهو بعيد من الحضرة كما أبان ذلك بقوله:

استيحاشك بفقدان ما سواه دليل إلى عدم وصلتك به

قلت: استيحاشك بفقدان الأحوال و الواردات دليل على عدم وصلتك، إذ لو وصلت إليه لم تستوحش من فقدان شيء، و في الحقيقة شيئا، و هذه علامة الغنى بالله، أنه إذا فقد شيئا مما في العادة يؤلم، كالولد مثلا، أو قريب، أو فاتته عبادة حسية مثلا أو غير ذلك، فإنه يرجع للمعرفة، فالله يغني عن كل شيء و هو المقصود من العبيد، قال الله تعالى:( لكي لا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما أتاكم).

   قال في التنوير: اعلم أن الله سبحانه و تعالى إنما يدخلك في الحال لتنال منها لا لينال منك، و إنما جاءت لتحمل هدية التعريف من الله إليك فيها، فتوجه إليها باسمه المبدي، فأبداها و أبقاها، حتى إذا وصلت إليك ما كان لك فيها، فلما أدت الأمانة توجه إليها باسمه المعيد، فأرجعها و توفاها، فلا تطلبن بقاء رسول بعد أن بلغ رسالته، و لا بقاء أمين بعد أن أدى أمانته، و إنما يفتضح المدعوون بزوال الأحوال بعزلهم عن مراتب الإنزال، هنالك يبدو العوار، و تنتهك الأستار، فكم من مدعي الغنى بالله، و إنما غناه بطاعته، أو بنوره أو بفتحه، و كم من مدع العز بالله، و إنما اعتزازه بمنزلته و صولته على الخلق، معتمدا على ما ثبت عندهم من معرفته، فكن عبد الله لا عبد العلل، و كما كان لك ربا و لا علة، فكن عبدا له و لا علة، لتكون له كما كان لك/.

   و هذا آخر الباب الثالث و العشرين، و حاصلها الكلام على القرب و الوصال و ما ينشأ من ذلك من مقامات الإنزال و نتائج الأحوال، و الغنى بالله عنها في كل حال، فهذا هو النعيم على الدوام، و الذي موضوعه في الباب الموالي الموفي الخامس و العشرين.

 

 

الباب السادس و العشرون

غايــة النعيم في شهود وجـه الكريـم

   النعيم بشهوده و العذاب بحجابه

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire