طلبك له اتهام له، و طلبك منه غيبة منك عنه، و طلبك لغيره لقلة حيائك منه، و طلبك من غيره لوجود بعدك عنه.

قلت طلبك منه يكون بالتضرع و الابتهال، و طلبك له يكون بالبحث و الاستدلال، و طلبك لغيره يكون بالتعرف و الإقبال، و طلبك من غيره يكون بالتملق و السؤال، و حاصلها أربعة، و كلها مدخولة عند المحققين، أما طلبك منه فلوجود تهمتك له، لأنك إنما طلبته مخافة أن يهملك أو يغفل عنك، و إنما ينبه من يجوز منه الإغفاء، و إنما يذكر من يمكن منه الإهمال، قال تعالى: (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) البقرة/74، و قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) الزمر/ 36 و قال صلى الله عليه و سلم:" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"

فالسكوت تحت مجاري الأقدار أفضل عند العارفين من التضرع و الابتهال، و كان شيخ شيوخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول: الفقير الصادق لم تبق له حالة يطلبها، و إن كان لا بد من الطلب فليطلب المعرفة اهـ.

قلــت: و إذا ورد منهم الدعاء، فإنما هو عبودية و حكمة، لا طلبا للقسمة، إذ ما قسم الله لك واصل إليك، و لو سألته أن يمنعكه ما أجابك، و فــي المسألة خلاف بين الصوفية، هل السكوت أولى أو الدعاء، و التحقيق أن ينظر ما يتجلى فيه و ينشرح له الصدر، فهو المراد منه.

و أما طلبك له فهو دليل على غيبة عنه بوجود نفسك، فلو حضر قلبك، و غبت عن نفسك و وهمك لما وجدت غيره،

أراك تسأل عن نجد و أنت بهـا و عن تهامة هذا فعـل متهــــم

وقال ابن المرحل السبتي رضي الله عنه:

و من عجب أني أحن إليهـم

و أسأل شوقا و هم معـــــي

و تبكيهم عيني و هم بسوادها

و يشكو النوى قلبي و هم بين أضلعي

و قال الرفاعي رضي الله عنه:

قالوا أتنسى الذي تهوى فقلت لهم

يا قوم ، من هو روحي كيف أنساه

و كيف أنساه و الأشياء به حسنت

من العجائب ينسى العبد مــولاه

ما غاب عني و لكن لست أبصره

إلا و قلت جهارا : قل هــو الله

و أمــا طلبك لغيره، أي لمعرفة غيره، فلقلة حيائك منه، و عدم أنسك به، أما وجه قلة حيائك، فلأنه يناديك إلى الحضرة و أنت تفر منه إلى الغفلة، و مثال ذلك، كمن كان في حضرة الملك و الملك مقبل عليه، ثم يجعل هو الخروج منها و يلتفت إلى غيره، فهذا يدل على قلة حيائه و عدم اعتنائه بالملك، فهو حقيق بأن يطرد إلى الباب، أو إلى سياسة الدواب، و قد قالوا: أنكر من تعرف و لا تتعرف لمن لا تعرف .

و أما وجه عدم أنسك فلأنك لو آنست به لاستوحشت من خلقه، فلا يتصور منك طلب معرفتهم، و أنت تفر منهم، فإذا آنسك به أوحشك من خلقه و بالعكس، و الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، و إقبالك على الحق إدبارك على الخلق،و إقبالك على الخلق إدبارك عن الحق، و قد عَدّوا من أصول الطريق، الإعراض عن الخلق في الإقبال و الإدبار.

و أما طلبك من غيره فلوجود بعدك عنه، إذ لو تحققت بقربه منك، و هو كريم، ما احتجت إلى سؤال غيره و هو لئيم، و سيأتي في المناجاة، أم كيف يطلب من غيرك، و أنت ما قطعت عادة الامتنان، و في بعض الكتب المنزلة يقول الله تبارك و تعالى: إذا أنزلت بعبدي حاجة، فرفعها إلي، أعلم ذلك من نيته، لو كادته السماوات السبع و الأرضون السبع لجعلت من أمره فرجا و مخرجا، و إذا أنزلت بعبدي حاجة فرفعها إلى غيري، أضحت الأرض من تحته و أسقطت السماء من فوقه و قطعت الأسباب في ما بيني و بينه، أو كما قال ،لطول العهد به، فتحصل أن الأدب هو الاكتفاء بعلم الله، و التحقق بمعرفة الله، و الاستغناء به عما سواه، و الله تعالى أعلم .

 

الأدب السادس: فتح مخازن الفهوم

 

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire