لا تنفعه طاعتك، و لا تضره معصيتك، فإنما أمرك بهذه و نهاك عن هذه لما يعود عليك.

لا تنفعه طاعتك و لا تضره معصيتك، و إنما أمرك بهذا و نهاك عن هذا لما يعود إليك،

لا يزيد في عزه إقبال من أقبل عليه، و لا ينقص من قدره إدبار من أدبر عنه

   قلت: الحق سبحانه و تعالى غني عن كل شيء، مفتقر إليه كل شيء، لا تنفعه طاعة الطائعين و لا تضره معصية العاصين، و سيأتي في المناجاة: إلهي، تقدس رضاك أن تكون له علة منك، فكيف تكون له علة مني، أنت الغني بذاتك أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنيا عني/.

   فلا تنفعه أيها العبد طاعتك، فيكون محتاجا إليها، تعالى الله عن ذلك، و لا تضره معصيتك فيكون مقهورا بها، و هو القاهر فوق عباده، فإنما أمرك بالطاعة ليقربك إليه، إن رحمة الله قريب من المحسنين، و إنما نهاك عن المعاصي لما جعل فيها من علامة البعد عن حضرته، فما أمرك بشيء إلا و فيه تقريب و آداب للحضرة، و ما نهى الله عن شيء إلا و فيه ضرر و إبعاد عن الحضرة، لما فيه من سوء الأدب و التحقيق، إنه لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.

   لا يزيد في عزه إقبال من أقبل عليه، لأن عزته أزلية قديمة، و لا ينقص من عمره إدبار من أدبر عنه لأنه غني عن العالمين، و في الحديث القدسي: و لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا(الحديث).

   و من أسمائه تعالى "القــدوس" قال بعضهم: معناه أنه منزه عن كل كمال لا يليق بذاته، و لا يقال أنه منزه عن النقائص إذ لا تصح نسبتها إليه حتى ينزه عنها، إذ لا ينفى عن الشيء إلا ما يصح إثباته له، فإن نفيت ما لا يصح إثباته فربما يكون نقصا، كأن تقول: السلطان ليس جزارا، و من أجاز ذلك فإنما مراده التعميم و كمال التقديس و التنزيه، قال بعضهم: لو أراد الخلق تنزيه الخالق إلا بلسان العجز ما استطاعوا، و لذلك قال صلى الله عليه و سلم:" لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" /.

   ثم قال البعض: إن صفات البارئ و أسماءه كلها كليات و المخلوق جزء، و الجزء لا يحيط بالكل و لا يدرك حقيقته، فتحرز من التأويلات المخرجة عن المعنى اللائق بجانب الحق مسلّماً أن لا يعرف الله إلا الله، و أنشــدوا:

لا يعلـم الله إلا الله فــاتئـدوا            و الديـن دينـان إيمـان و إشـراك

و للعقـول حـدود لا تجـاوزها            و العجـز عــن درك الإدراك إدراك

 

   فهذا أوائل المعرفة، و أما وسطها فهو اغتراف من بحر الحقيقة و استشراف على غوامض الطريقة، و لا تسعه كل عقول العامة و إنما يخوض فيه الخاصة، فإن ما تقدم كان فيه استدلال بالاسم على المسمى، و هذه مرتبة تسقط التفرقة بين الاسم و المسمى و بين الصفة و الموصوف، ثم قال: و لهذا قالوا لجمع سقوط التفرقة، و ليس بعد هذا إلا جمع الجمع، و هو غاية المعرفة، فأول المعرفة دلالة الصنع على الصانع، و وسطها دلالة الصانع على الصنعة، و غايتها تلاشي كل ما دون الحق، كل من عليها فان، و يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، (قاله الشطيبي مختصرا).

   و هــذا آخر الباب الثاني و العشرين، و حاصلها الترغيب في تحصيل الأنواع بالتفرغ من الأكدار، فإذا فرغت قلبك و تأخر الفتح عليك فلا تستبطئ منه وجود النوال، و لكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال، و لا يكمل إقبال العبد على ربه حتى يستغرق الأوقات كلها في طلبه، فكل وقت من العمر لا ثمن له، و لا يمكنه التفرغ لحفظ الأوقات حتى يتحرر من رق الكائنات، فإذا تحرر مما سواه كان عبدا حقيقة لمولاه، فحينئذ اجتباه، و لحضرته اصطفاه، من غير منفعة له فيه و لا ضرر، و إنما يعود نفعه له و ضرره عليه، إذ لا يزيد في عزه إقبال من أقبل، و ينقص إدبار من أدبر، و إنما وصل من وصل بمحض فضله، و أبعد من أبعد بمحض عدله،

   و معنى وصول العبد إلى مولاه، علمه بنور عظمة ربه و سناه كما أبان ذلك في الباب بعده.

 

 

 

الباب الخامس و العشرون

القرب و الوصال و ما ينشأ من ذلك من مقامات الإنزال و نتائج الأحوال

   كيف يكون الوصول إليه سبحانه

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire