علم قلة نهوض العباد إلى معاملته فأوجب عليهم وجوب طاعته، فساقهم إليها بسلاسل الإيجاب.

 علم قلة نهوض العباد إلى معاملته فأوجب عليهم وجوب طاعته،

 فساقهم إليه بسلاسل الإيجاب، عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل.

أوجب عليك وجوب طاعته، و ما أوجب عليك إلا دخول جنتـه

   قلت: هذه حكمة التشريع لكنه ما ذكر إلا حكمة أهل الظاهر، و حاصلها أن الحق سبحانه من حكمته لما علم من عباده قلة النهوض إلى معاملته لأنه قال تعالى: (و قليل من عبادي الشكور)، و قال أيضا: ( و قليل ماهم) فلما علم ذلك أوجب عليهم طاعته، و أوعدهم على تركها بالعقوبة، فساقهم إليه بسلاسل الإيجاب، ثم ذكر الشيخ حديثا ورد في شأن الأسارى، إشارة إلى أن العبد لا اختيار له، فهو أسير في يد قدرة القدير، و الحديث مشهور و هو قوله عليه السلام: " عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل"، لأنه صلى الله عليه و سلم كان يدعو إلى الله و يدعو إلى دخول حضرته، فمن وافقه نجا و من خالفه جعل له السلسلة في عنقه و ساقه إلى حضرة ربه، و لفظ الحديث" عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل" قال بعض العلماء: يجوز أن يكون معنى التعجب المنسوب إلى الله إظهار عجب هذا الأمر لخلقه، لأنه بديع الشأن، و هو أن الجنة التي أخبر الله بها، فيها من النعيم المقيم، و الخلود في العيش الرغد الدائم، و من حكم و من سمع بها من ذوي العقل أن يسارع إليها و يبذل جهده فيها، و يحتمل المكاره و المشقات لينالها، و هؤلاء يفرون منها و يرغبون عنها حتى يقادوا إليها بالسلاسل كما يقاد إلى المكاره العظيمة التي تنفر منها الطباع/.

   ثم إن الحق سبحانه و تعالى غني عن الانتفاع بالمنافع فما أمرك بهذا و نهاك عن هذا إلا لما لك فيه من جلب المنافع و دفع المضار، أوجب عليك وجود طاعته، و ما أوجب عليك إلا دخول جنته.

   و قال بعض الحكماء: و العلم أن في الطاعة تفاوتا و درجات، و في المخالفة كبائر و دركات، قال صلى الله عليه و سلم: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما يرى أهل الأرض الكوكب الدري في أفق السماء" قيل يا رسول الله تلك منازل الأنبياء قال:" و الذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين".

   و قال آخر: الناس ثلاث، عبد أطاع الله عبودية و شكرا و امتثالا و قياما بحق الخدمة، فزاده الوجوب شوقا و علو درجة، و عبد أطاع الله تعظيما للموجب، فالوجوب في حقه تنبيه و إظهار للحكمة، و عبد أطاع خوفا من عذابه و رجاء في ثوابه، و لولا ذلك ما عبده، فالوجوب في حقه لطيف، و في الكل خير و شتان بينهما/.

   قلت: و التحقيق إنما هما قسمان، قسم أطاع على التكليف، و هم أهل التكثيف، و قسم أطاع على التعظيم، و هم أهل التعليم و التعريف، أهل الحجاب أطاعوا خوفا و طمعا، و أهل العيان أطاعوا حبا و شكرا، و هو مقام الأنبياء و خواص الأولياء، قال عليه السلام: "أفلا أكون عبدا شكورا".

   فالحكمة عند أهل الباطن في وجوب الخدمة إنما هي إظهار لسر ستر الربوبية التي هي في مظاهر العبودية، فالربوبية بلا عبودية نقص يلزم عليه إبطال حكمته، و العبودية بلا ربوبية محال لا يتصور وجوده.

مـن لا وجـود من ذاتـه لـذاتـه        فوجـوده لــولاه عيــن محـال

   و لأجل هذا المعنى كان العارفون إذا تحققوا هذا السر، و هو أن العبودية لا وجود لها من ذاتها، و إنما حكمة وجودها صور سر الربوبية بإظهار أحكام العبودية، و عرفوا ذلك حالا و ذوقا، كانت عبادتهم شكرا، و كانوا فيها محمولين غير حاملين، عملهم بالله لله، فعبادة هؤلاء كثيرة عظيمة في المعنى، و إن كانت قليلة في الحس و تقلّ أبدا، إذ تصرفاتهم كلها عبادة، نومهم عبادة و أكلهم عبادة و مشيهم عبادة، و في مثل هؤلاء ورد الحديث: " نوم العالم عبادة " و قال أيضا:" رجال يدخلون الجنة على الفرش الممهدة" قيل و من هم يا رسول الله قال: " الذاكرون الله كثيرا" أو كما قال عليه السلام.

   و قال أبو سليمان: قد يدرك العارف على فراشه ما لا يدركه في صلاته، و لا يستغرب العبد من نفسه بلوغ هذا المقام، فإن فضل الله لا ينال بسبب، و قدرة الله صالحة لدرك كل مطلب كما أبان ذلك بقولــه:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire