عباراتهم إما لفيضان وجد أو لقصد هداية مريد، فالأول حال السالكين، و الثاني حال أرباب المكنة و المحققين.

عبارتهم إما لفيضان وجد، أو لقصد هداية مريــد

    قلت: ما اشتملت عليه قلوب العارفين من المعارف و أسرار التوحيد و غوامض العلوم التي لا تطيقها جل الفهوم هو سر من أسرار الله، و هم أمناء الله عليه، فلا يطلعون عليها إلا من رأوه أهلا لها، إلا من كان مغلوبا على حاله، لا يقدر على إمساكها، و هو من لم يتمكن من حاله فيها، فعبارتهم إذا إما لفيضان وجد غلبه، فلم يقدر على إمساكها، أو لأجل هداية مريد، و إرشاده و ترقيته إلى مقام استحق الاطلاع عليه و إلا فلا يظهرون من تلك الأسرار قليلا و لا أقل من القليل، و قد تقدم قول بعضهم:

                         قلـــوب الأحـــرار قبــــور الأســــرار

     و قال آخر:

لا يكتـم السر إلا كـل ذي ثقــة     *****    فالسـر عنـد خيـار النـاس مكتـوم

 

   ثم بين حال الفريقين فقال:

 

الأول حــال السالكيــن، و الثاني حال أرباب المكنة و المتحققين

   السالكون هم المستشرفون من السائرين، حققوا و لم يتمكنوا، فهم مملوكون في يد الأحوال، إذا غلب عليهم الوجد فاضوا و لم يشعروا، و إذا رجعوا إلى أنفسهم ندموا واستغفروا.

   و أما الحال الثاني فهو حال الراسخين المتمكنين، فلا يعبرون عن تلك الأسرار إلا لأجل هداية المريدين و تربية السالكين و ترقية السائرين، و أما لغير هؤلاء فلا، فإن عبر عنها السالك لا عن غلبة وجد كان في ذلك نوع من الدعوى، و إن عبر عنها المتمكن في غير قصد هداية كان في ذلك إفشاء لأسرار الربوبية، و هي عندهم أعز من الكبريت الأحمر، و قد كان الرجل يخدمهم سنين، فلا يظهرون له منها قليلا و لا كثيرا، حتى إذا رأوه أعطى نفسه و فلسه و بذل روحه بالكلية، أشاروا إليه إشارة خفية.

   ذكر شيخ شيوخنا سيدي علي في كتابه أن طائفة من المريدين خدموا شيخا ثلاثين سنة، ثم قالوا له: يا سيدنا أردنا أن تعرفنا بربنا، فقال لهم نعم غدا أتوني لداري، فلما أتوه أخرج لهم صبيا صغيرا فوجهه إليهم، ثم دخل، فانظر هذه الإشارة، ما ألطفها و أخفاها.

   ثم منّ الله على أهل هذا الزمان برجال كرام، من صحبهم بالصدق منحوه من الأسرار في يسير من الزمن ما لم يدركه المتقدمون في الأزمنة الطويلة، جزاهم الله عن الأمة المحمدية خيرا.

   و قد تكلم الشيخ أبو الحسن على حال السالكين و الواصلين بكلام طويل ذكره في لطائف المنن، و نقله الشطيبي فقال: إن لله عباد محق أفعالهم بأفعاله و أوصافهم بأوصافه و ذاتهم بذاته، و حملهم من أوصافه ما يعجز عن سماعه عامة الخلق، فهم مغرقون في بحر الذات، و تيار الصفات، فنوا عن أفعالهم، ثم فنوا عن صفاتهم، ثم فنوا عن ذاتهم و بقوا بذات الله تعالى، و لم يبق لهم منهم شيء، و من كان في الله تلفه كان على الله خلفه، و من صح فناؤه صح بقاؤه.

   ثم قال: و اعلم أن الفناء يوجب الغيبة عما سوى الله.

   قلت: و هو مقام السالكين، و البقاء يوجب إيجاد كل شيء مع الله، يعني بالله، فصاحب الفناء يقوم الله عنه، و صاحب البقاء يقوم بالله عن الله، و هما ولايتان، فولي يتولى الله و رسوله، و الذين آمنوا، و ولي يتولاه الله و هو يتولى الصالحين.

     قال الشيخ أبو الحسن: و علامة الولاية الرضا بالقضاء و الصبر على البلاء، و الفرار إلى الله عند الشدائد، و الرجوع إليه عند النوائب، فمن أعطي هذه الأربعة من خزائن الأعمال و المجاهدة، فقد صحت ولايته لله و رسوله و للمؤمنين، و من أعطيها من خزائن المنن و المواددة فقد تمت ولاية الله له، فالولاية الأولى ولاية صغرى، و الولاية الثانية ولاية كبرى.

   قيل له: كيف يتولى الله و رسوله و الذين آمنوا، قال: يتولى الله بالمجاهدة لقوله تعالى:(و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) و يتولى الرسول بالمتابعة (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ( من يطع الرسول فقد أطاع الله) و يتولى المؤمنين بالاقتداء بهم، و هي علامة من خاض بحر الولاية، و أما الذين تولاهم الله فهم الذين صلحوا لحضرته، و غابوا عن خليقته، فلا يرون في الوجود إلا الله، الأولى تسمى ولاية إيمان، و هذه ولاية إيقان.

   فقيل له: و ما الفرق بين الإيمان و الإيقان؟ قال: كل يقين إيمان و ليس كل إيمان إيقانا، فالإيمان ربما تدخله الغفلة، و المؤمن يتجلى له الحق دون كل شيء، و الموقن يتجلى له الحق في كل شيء، المؤمن فان عن كل شيء، فلم يشهد مع الله شيء، و الموقن باق في كل شيء فهو يشهد الله في كل شيء/.

   ثم بين المؤلف رضي الله عنه فائدة التعبير و ثمرة العبارة فقـال:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire