تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، فحيث صار التنوير وصل التعبير.
قلت: الحكماء هم العارفون بالله، الذين يتكلمون بالله و يصمتون بالله، غائبون عن أنفسهم، يشهدون ما من الله إلى الله، فإذا أرادوا أن يعبروا عما منحهم مولاهم من العلوم و المعارف سبق نور شهودهم إلى القلوب المستمعة، فتسري فيهم على قدر صدقهم، فمنهم من يدخل النور سويداء قلبه، و منهم من يقف النور على ظاهر قلبه، و منهم من يشرق النور على طرف قلبه، فإذا عبر العارف عن المقامات و الأحوال وصل التعبير على قدر سريان النور، فمن وصل النور إلى سوداء قلبه قام من ساعته إلى ربه، و من وصل إلى ظاهر قلبه خشع و خضع، و عزم على البر و التقوى، و من وصل إلى طرف قلبه عرف الحق و صدق، فحيثما صار التنوير وصل التعبير.
و قولنا في تفسير الحكماء: هم العارفون، مأخذنا فيه و قوله عليه السلام:"رأس الحكمة مخافة الله"/.
و أعرف الناس بالله أشدهم له خشية، و فيهم قال تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) فاطر/28و سئل مالك عن الحكمة فقال: ما زهد عبد و اتقى إلا أنطقه الله بالحكمة، ثم قال: من أراد أن يفتح الله عين قلبه، فليكن عمله في السر أكثر من عمله في العلانية، لأن عمل السر منبع الإخلاص، و الإخلاص منبع الحكمة، و سئل مرة أخرى عن الحكمة فقال: نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن من فسحة الملك/.
فأهل التنوير هم الحكماء، و هم العارفون بالله، و لله در القائل في وصفهم حين قال:
هينـون لينـون أيسـار بنـو يسـر سـواس مكرمــة أبنــاء أيســار
لا ينطقــون بغير الحـق إن نطقـوا و لا يمــارون إن مـاروا بإكثـــار
مـن تلق منهـم تقل لا قيـت سيدهم مثل النجوم التـي يسري بهـا السـاري
و قولنا في وصفهم: يشهدون ما من الله إلى الله، يعني أنهم غائبون عن أنفسهم، لا يرون إلا تصريف الحق في مظاهر أنواره، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: الناس على ثلاثة، عبد يشهد ما منه إلى الله، و عبد يشهد ما من الله إليه، و عبد يشهد ما من الله إلى الله، فالأول ذو حزن و أشجان، و الثاني ذو فرح و امتنان، و الثالث لم يشغله عن الله خوف نار و لا مثوى جنان.
فالأول ذو كد و تكليف و الثاني ذو عناية و تعريف، و الثالث مشاهد للمولى اللطيف، ثم قال: و قليل العمل مع شهود المنة خير من كثيره مع رؤية التقصير من النفس/.
ثم ذكر علامة التعبير الذي يسبقه التنوير و الذي يسبقه التكدير فقال:
0 Commentaire(s)