تحقق بأوصافك يمدك بوصفه، و تحقق بذلك يمدك بعزه، و تحقق بعجزك يمدك بقدرته، و تحقق بضعفك يمدك بحوله و قوته.

   قلت: أوصاف العبودية أربعة، يقابلها من أوصاف الربوبية أربعة،

   أولها: من العبد الفقر و من الله الغنى.

   الثاني: من العبد الذل ومن الله العزة.

   الثالث: من العبد العجز و من الله القدرة.

   الرابع: من العبد الضعف و من الله القوة.

  و التحقق بالوصف هو التحلي و الاتصاف به قلبا و قالبا، و يكون ذلك باديا بين خلقه، فلا يتحقق الذل لله حتى يظهر ذلك بين عباده، فمن أراد أن يمده الله بالغنى به عما سواه، فليتحقق بالفقر عما سواه، كما قال الشيخ أبو الحسن في حزبه الكبير: نسألك الفقر مما سواك و الغنى بك حتى لا نشهد إلا إياك، و من أراد أن يمده الله بالعز الذي لا يفنى، فليتحقق بالذل لله و التواضع بين خلقه، فمن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره، و من أراد أن يمده الله بالقدرة الخارقة للعوائد فليتحقق بعجزه و يتبرأ من حوله و قوته، و من أراد أن يمده الله بالقوة على طاعة مولاه و مجاهدة نفسه و هواه، فليتحقق بضعفه و يسند أمره إلى سيده، فبقدر ما تعطي تأخذ، و بقدر ما تتخلق تتحقق، و بقدر ما تتحقق بوصفك يمدك بوصفه، و قد قلت في ذلك أبياتا و هي هذه:

     تحقـق بوصـف الفقـر في كل لحظــة    *****    فمـا أسـرع الغنـى إذا صحـح الفقـر

      و إن تـردن بسـط المواهـب  عاجـلا    *****     ففـي الفاقـة ريـح المواهـب ينشــر

      و إن تـردن عـزا منيعــا مؤيـــدا    *****     ففـي العـز يخفـى الذل، ثـم يظهــر

      و إن تـردن رفعـا لقـدرك عاليـــا    *****     ففـي وضعـك النفـس الدنيـة  يحضـر

      و إن تـرد العرفـان فافـن عـن الورى    *****     و عن كل مطلـوب سـوى الحـق تظفـر

      تـرى الحـق في الأشياء حين تلطفــت    *****    ففـي كـل موجود حبيـبـي ظـاهــر

 

   قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: و تصحيح العبودية بملازمة الفقر و الضعف و الذل لله تعالى، و أضدادها أوصاف الربوبية، فما لك و ما لها، فلازم أوصافك و تعلق بأوصافه و قـل من بساط الفقر الحقيقي: يا غني ما للفقير سواك، و من بساط الضعف الحقيقي: يا قوي من للضعيف سواك، و من بساط العجز الحقيقي: يا قادر من للعاجز سواك، و من بساط الذل الحقيقي: يا عزيز من للذليل سواك.. تجد الإجابة كأنها طوع يدك، فاستعينوا بالله و اصبروا، إن الله مع الصابرين، و لا يصح التحقق بالوصف حتى يتحقق بأضدادها من مولاه، فلا يلتجئ في فقره و لا عجزه و لا ضعفه إلى أحد سواه.

   روي أن بعض الملوك قال لبعض الفقراء: ما يكون لك من حاجة فارفعها إلي فقال له الفقير: قد رفعت حوائجي لمن هو أقدر منك، فما أعطاني منها رضيت به، و ما منعني منها رضيت عنه، فقال له: و لا لك حاجة عندي، قال: بلى قال: ما هي قال: لا تراني و لا نراك، و أنشدوا:

ملكـت نفسـي و كنـت عبــدا     *****      فـزال رقـي و طـاب عيشــي

أصبحـت أرضـى بحكـم ربــي     *****     إن لـم أكـن راضيـا فأيشــي

 

   فهذا هو التعلق بوصف الربوبية، و التعزز بالله الذي لا يفنى عزه، قال الله تعالى:( و لله العزة و لرسوله و للمومنين) المنافقون8، و من تعزز بالله ذل له كل شيء، و قد حج شيبان الراعي مع سفيان الثوري، فلما كانا في البرية عرض لهما سبع، فأخذ سفيان خارج الطريق و مضى إليه شيبان، ثم عرك أذنه، فلم يزد أن حرك ذنبه و بصبص و انصرف، فقال له سفيان، ما هذا يا شيبان، فقال له: لو شئت أن أركبه إلى مكة لفعلت.

   و كانت عجوز تأتي كل يوم إلى بين السري السقطي، فتنكس بيته و تسوق له بعض القوت، فسأل من هي، فقال: الدنيا، سخرها الله لي لما زهدت فيها، و في هذا المعنى ورد الحديث، يقول الله للدنيا: ( يا دنيا اخدمي من خدمني و اتعبي من خدمك) ، و قال إبراهيم بن أدهم، من طلب الفقر استقبله الغنى، و من طلب الغنى استقبله الفقر، و الغنى هو الغنى بالله.

   و قال سهل رضي الله عنه: لم يشم رائحة اليقين من ركن لغير الله.

   و قال أبو تراب: رأيت شابا في البادية يمشي بلا زاد فقلت في هذا الموضع بلا زاد؟ قال: لست أرى غير الله، فقلت: اذهب الآن حيث شئت.

   و قال إبراهيم الخواص: لقيت فقيرا في البادية فقلت له: إلى أين فقال: إلى مكة، قلت: بلا زاد و لا راحلة قال: الذي يمسك السماوات و الأرضين و يحفظهما، لا يعجزه قوتي بلا سبب و لا علاقة، فقلت صدقت، ثم رأيته بعد ذلك في مكة و هو يطوف و يقول:

يــا عيــن سحـي أبــدا       *****      يـا نفـس موتــي كمــــدا

و لا تحبــي أحــــــدا     *****      إلا الإلــــه الصمـــــدا

   فلما رآني قال لي: ما زلت على ضعف يقينك، فقلت: لا، بل أعلم أن الله على كل شيء قديــر/.

 

   هذا آخر الباب التاسع عشر، و حاصلها أن العارفين ربما دلهم الأدب على ترك الطلب اكتفاء بعلم الله، إذ لا يذكر إلا الغافل، و لا ينبه إلا الساهي، و تعالى الله عن الأمرين علوا كبيرا، فإذا نزلت بهم فاقة أو شدة لم يسألوا رفعها، بل فرحوا بها، و جعلوها مواسم و أعياد، لما يجدون فيها من المزيد، و ما يهبّ على قلوبهم من نسيم التوحيد و التغريد، و هي المواهب الربانية و العلوم اللدنية، فتحققوا بأوصافهم، و أمدهم بأوصافه، فصاروا في الظاهر عبيدا و في الباطن أحرارا، في الظاهر فقراء ضعفاء أذلة، و في الباطن أغنياء أقوياء أعزاء، و هذه هي الكرامة العظمى دون الكرامة الحسية، كما أشار إلى ذلك في الباب الموفي عشرين بعده. 

 

الباب الثالث و العشرون

ميــزان الأعمال و الأحـوال

   لا يثقل على النفس إلا ما كان حقا

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire