ما ترك من الجهل شيء، من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه.

الجهل هو ضد العلم، و قيل عدم العلم بالمقصود، و هو على قسمين: بسيط و مركب:

فالبسيط أن يجهل و يعلم أنه جاهل، و المركب أن يجهل جهله، و أقبح جهل الجهل بالله و إنكاره بعد طلب معرفة..

قلـت: من آداب العارف الحقيقي أن يقر الأشياء في محلها، و يسير معها على سيرها، فكلما أبرزته القدرة للعيان، فهو في غاية الكمال و الإتقان، و في ذلك قال صاحب العينية رضي الله عنه:

و كل قبيح إن نسبت لحســـنه

أتتك معاني الحسن فيه تســـارع

يكمل نقصان القبيح جمالــــه

فما ثم نقصان و لا ثـم باشـــع

و قال أبو الحسن النوري رضي الله عنه: مراد الله من خلقه ما هم عليـه، فإذا أقام الله عبدا في مقام من المقامات، فالواجب على العارف أن يقره فيه بقلبه كائنا ما كان، فإن كان لا تسلمه الشريعة رغبه في الخروج عنه بالسياسة، و ينظر ما يفعل الله، قال بعضهم: من عامل الناس بالشريعة طال خصمه معهم، و من عاملهم بالحقيقة عذرهم، و الواجب أن يعاملهم في الظاهر بالشريعة فيذكرهم، و في الباطن بالحقيقة فيعذرهم، و من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله تعالى في نفسه أو في غيره، فقد جمع الجهل كله و لم يترك منه شيئا، حيث عارض القدرة و نازع القادر، و قد قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ )هود/107،و قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) الأنعام/ 112و قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) يونس/99،و في بعض الأخبار يقول الله تبارك و تعالى: من لم يرض بقضائي و لم يصبر على بلائي فليخرج من تحت أرضي و سمائي و ليتخذ ربا سواي، و قال عبد الله بن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهما: لأن ألحَسَ جمرة أحرقت ما أحرقت و أبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشيء كان، ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان، و قال أبو عثمان رضي الله عنه: منذ أربعين سنة، ما أقامني الله تعالى في حال فكرهته و لا نقلني إلى غيره فسخطته ..

و قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: من عرف أهل حقائق الظاهر، و لم ينكر عليهم شيئا من أحوالهم يظفر بما في أيديهم، و لا يمنع خيرهم قطعا، و من عرف أهل حقائق الباطن، و لم ينكر عليهم شيئا من أحوالهم يظفر بما في أيديهم على كل حال و لا يمنع خيرهم قطعا، و العارف بالله يجمع بين خير الفرقتين، يصطحب معهما جميعا، و كل فرقة يتلون على لونها، كشيخ شيوخنا سيدي أحمد اليماني رضي الله عنه و نفعنا به، كان رضي الله عنه مما لا ينكر حالا من أحوال الخلق، أهل الظاهر يتلمذهم في ظواهرهم، و يدفعهم إليها و يقرهم فيها، و أهل البواطن يتلمذهم في بواطنهم و يدفعهم إليها و يقرهم فيها، فحصل له خير الفريقين بما رزقه الله من المعرفة و الحكمة، قيل : إن الولي الكامل يتطور بجميع الأطوار، يقضي جميع الأوطار.

قلــت : و من تأمل الأحاديث النبوية وجدها على هذا المنوال، لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان سيد العارفين، و قدوة المربين، فكان يقر الناس على ما أقامهم الله في حكمته، و يرغبهم فيها، فلذلك تجد الأحاديث متعارضة و لا تعارض في الحقيقة، فإذا نظرت في أحاديث الذكر قلت لا أفضل منه، و إذا نظرت في أحاديث الجهاد، قلت لا أفضل منه، و إذا نظرت إلى أحاديث فضل العلم قلت لا أفضل منه، و إذا رأيت إلى أحاديث الزهد و التجريد من أسباب الدنيا قلت لا أفضل منه، و كذلك إذا نظرت إلى أحاديث الكسب و الخدمة على العيال...، فكل حكمة رغب فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم، حتى تقول، لا أفضل منها تطييبا لخاطر أهلها، ليكونوا فيها على بينة من ربهم، و لم يأمرهم عليه السلام بالانتقال عنها، إذ مراد الحق منهم هو تلك الحكمة، فأقرهم عليه السلام عليها و رغبهم فيها، حتى يظن من يسمع أحاديثها أنه لا أفضل منها، و هو كذلك، إذ لا أفضل منها في حق أهلها، و الحاصل أن العارف لا ينكر شيئا و لا يجهل شيئا، و قد قال بعض العارفين: ليس في الإمكان أبدع مما كان، و تأويله أن ما سبق في علم الله يكون لا يمكن غيره، فلا أبدع منه، و سيأتي الكلام غليه إن شاء الله، و الله تعالى أعلم ..

 

الأدب الثاني: الاعتماد على الله في كل حال

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire