إلى المشيئة يستند كل شيء، لأن وقوع ما لم يشأ الحق محال، و لا تستند هي إلى شيء، ربما دلهم الأدب على ترك الطلب، اعتمادا على قسمته، و اشتغالا بذكره عن مسألته، إنما يذكر من يجوز عليه الإغفال، و إنما ينبه من يمكن منه الإهمال.

إلى المشيئة يستند كل شيء، لأن وقوع ما لم يشأ الحق محال، و ليست تستند هي إلى شيء

   المشيئة و الإرادة شيء واحد و إليهما تستند الأشياء كلها قال تعالى:( وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) الإنسان30، و لو شاء ربك ما فعلوه... إلى آخر ذلك من الآيات الدالة على سبق المشيئة لكل شيء، و أما هي فلا تستند إلى شيء و لا تتوقف على شيء، فلا تتوقف على سؤال و لا على طلب، فما شاء الله كان من غير سبب و لا سؤال، و ما لم يشأ ربنا لم يكن قرب من شاء بلا عمل، و بعد من شاء بلا سبب لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، فقاعدة التحقيق "مـا"، ثم "إلا" سابقة التوفيق، قال أبو بكر الواسطي رضي الله عنه:

   إن الله لا يقرب فقيرا لأجل فقره، و لا يبعد غنيا لأجل غناه، و ليس للأعراض عنده خطر حتى بها يوصل، و بها يقطع، و لو بذلت الدنيا و الآخرة ما أوصلك إليه بها، و لو أخذتها كلها ما قطعك بها قرب من شاء بغير علة، و قطع من شاء بغير علة كما قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)النور40..

   فالنظر إلى المشيئة حقيقة، و النظر إلى السبب شريعة، أو تقول: النظر إلى المشيئة قدرة و النظر إلى الأسباب حكمة، و الحقيقة قدرة، و الحقيقة حاكمة على الشريعة في الباطن، و الشريعة حاكمة على القدرة في الظاهر، و ليس حكم القدرة بأولى من وصف الحكمة في محله و لا بالعكس..

   قال الشطيبي: و اعلم أن الناس أربعة:

   ناظر إلى السوابق لعلمه بأن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد..

  و ناظر في العواقب لعلمه بأن الأعمال بخواتمها..

  و ناظر للوقت لا يشتغل بالسوابق و لا بالعواقب، غير أداء ما كلف به من حكم الوقت عالم بأن العارف ابن وقته لا يهتم بماض و لا مستقبل، و لا يرى غير الوقت الذي هو فيه و ناظر لله وحده لعلمه بأن الماضي و المستقبل و الحال متقلبون في قبضته متصرفون في حكمه، و الأوقات كلها قابلة للتغيير و تبديل الحال، فلا يراها، و إنما يرقب من كل شيء بيده، و قد أراد بعضهم الخروج من بين يدي بعض المشايخ، فقال له الشيخ: أين تريد: قال له يا سيدي لئلا أشغلك عن وقتك، فقال له ليس عند الله وقت، و لا مقت، إنما نرى رب الوقت لا الوقت، و من تمكنت فيه حالة الشهود غاب بالموجود عن الوجود، و تحسبهم أيقاظا و هم رقود..

   حكـي أن رجلا قال لأبي يزيد: أين أبو يزيد؟ فقال له ليس هنا أبو يزيد..

   و قال رجل للشبلي: أين الشبلي ؟ قال: مات لا رحمه الله، إنما عن الشبلي لا رده الله لإحساسه عن مشاهدته لربه..

   و رأى أبو يزيد رجلا في المسجد يسأل عنه فقال له: و أنا أطلبه منذ سنين، فظن أنه مجنون، فلما علم أنه هو قال له: يا سيدي عليك أسأل و لك أطلب فقال له أبو يزيد: الذي تطلب قد ذهب في الذاهبين في الله بالله لله، فلا رده الله..

   و هذا آخر الباب الثامن عشر، و حاصلها آداب السؤال و الطلب، و أنه ينبغي أن يكون عبودية لا سببا في العطاء، إذ قد سبقت قسمتك في الأزل قبل أن يكون منك طلب، فعنايته سابقة، يختص برحمته من يشاء، لكن الحكمة تقتضي وجود العمل، فعلامة العمل إمارة على خصوصية الأزل مع توقف ذلك على المشيئة لأنها يستند إليها كل شيء و لا تستند هي لشيء، فلزم السكون و الأدب حتى في ترك الطلب، كما بين ذلك في أول الباب التاسع عشر الذي يأتي..

 

 

الباب الحادي و العشــرون

أدب العــارف في الطلــب

   ربما دلهم الأدب على ترك الطلب

ربما دلهــم الأدب على ترك الطلــب

اعتمادا على قسمته، و اشتغالا بذكره عن مسألته

     قلت: الظاهر أن ربَّ هنا للتكثير، لأن الغالب على العارفين و أهل الفناء السكوت و السكون تحت مجاري الأقدار، فصدور الطلب منهم قليل لأن العارف فان عن نفسه، غائب عن حسه، ليس له عن نفسه أخبار، و لا مع غير الله قرار، فلا يتصور منه سؤال، و لا فوات مأمول، (مَن شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين).. الأشياء تشتاق إليه و هو غني عنها، اشتاقت الجنة إلى عمار و صهيب و بلال كما في الحديث..

   و الحاصل، أن العبد ما دام غائبا عن نفسه، فانٍ في شهود ربه، منقطعا عن حسه، لا يتصور منه طلب أصلاً، إذ الطلب يقتضي وجود الإثنينية، و الفرض أنه غريق في بحر الوحدة، فطلبه حينئذ سوء أدب في حقه، فإن رد إلى الشعور بنفسه، و هو مقام البقاء، قد يتصور منه السؤال على وجه العبودية، لا على وجه الاقتضاء و الطلب كما تقدم، ثم بين مستندهم في ترك الطلب فقال:

اعتمادا على قسمته، و اشتغالا بذكره عن مسألته..

   قلت: أما الاعتماد على القسمة الأزلية، فقد تقدم الكلام عليه في الحكمة قبل هذه، و أما الاشتغال بالذكر عن المسألة، فقد تقدم قريبا في الحديث من شغله ذكري عن مسألتي..

  قال الواسطي رضي الله عنه: ما جرى لك في الأزل خير من معارضة الوقت، يعني بالطلب للحظ..

  و قال القشيري: إذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء، كما إذا وجد نشاطا أو انبساطا للدعاء، فالدعاء أولى، و إذا وجد في قلبه قبضا فالسكوت أولى..

  و قال بعضهم: ما سألت الله بلساني منذ خمسين سنة، و لا أريد أن أدعو و لا أن يدعى لي/.

   و ذلك لأن الله سبحانه و تعالى ليس بغافل حتى يذكّر بل هو عليم بخفيات أمورك، فيأتيك منها ما قسم لك كما بين ذلك بقوله:

إنما يُذكّر من يجوز عنه الإغفال، و إنما يُنبهُ من يجوز عليه الإهمال

   و قد قال تعالى:( وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)البقرة 73، و قال تعالى:( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) الزمر 36، و لا يحتاج الحق إلى تنبيه، لأنه يهملك فيما هو من قسمتك، فالحق تعالى لا يجوز عليه الإهمال لكمال قدرته و إحاطة علمه، و لكن حكمته اقتضت ارتباط الأسباب و العلل، و تقديم الأشياء و تأخيرها، قال تعالى:( وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)الرعد8، فمن كمل يقينه اكتفى بتدبير الحق عن تدبيره، و استغنى بعلم الله عن استعجاله، و رضي بتصريف الحق فيما يفعل، فيكون إبراهيميا حنيفيا، و لا شك أن من كان على ملة إبراهيم عليه السلام اقتدى به، و قد كان بين السماء و الأرض حين رمي به، فاستغنى بعلم الله عن السؤال، فكانت حالة سيدنا إبراهيم في ذلك الوقت، الاستغراق في الحقيقة، فلما رد للشرائع دعا، فقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ  ) إبراهيم/ 37  و قال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ {إبراهيم/41)... و كذلك الأنبياء عليهم السلام، أكثروا من الدعاء للتشريع و التعليم و إظهار الفاقات التي هي مواسم و أعياد كما أبان ذلك فيما يلي..

ورود الفاقات أعياد المريدين

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire