لم يكن في أزله إخلاص أعمال و لا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الأفضال و عظيم النوال.

   قلت: مما تواترت به الأخبار و النقول، و وافق المنقول و المعقول، أن ما شاء الله يكون، و ما لم يشأ لم يكن، و مشيئته تعالى قديمة لأنها عين إرادته، و إرادته على وفق علمه، و علمه قديم، فكل ما يبرز في عالم الشهادة، فإنما هو ما قدره الحق في عالم الغيب، جفت الأقلام و طويت الصحف، قال تعالى:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) الحديد22، أي نظهرها، فلا سعادة و لا شقاء إلا و قد سبق بهما القدر و القضاء، و السعيد من سعد في بطن أمه و الشقي من شقي في بطن أمه، و قد تقدم قوله: ما من نفس تبديه إلا و له قدر فيك يمضيه، فإذا علمت ذلك أيها الإنسان، اكتفيت بعلمه السابق عن طلبك اللاحق، و بقي طلبك عبودية و أدبا مع الربوبية، و إلا فعنايته سابقة فيك على وجودك لا لشيء منك تستحق به عنايته و منته، و أين كنت حين واجهتك عنايته في أزله، حين سبقت لك منه العناية، و كتبت في جملة أهل الرعاية و الهداية، ثم لما استنطقك يوم الميثاق، أقررت بربوبيته، و أين كنت حين قابلتك رعايته و حفظه و أنت في ظلمة الأحشاء، حين أجرى عليك رزقه من عرق الدم، و حفظك في ذلك المستودع حتى اشتدت أعضاؤك، و قويت أركانك، فأخرجك إلى رفقه، و ما يسر لك من رزقه، لم يكن في أزله حين واجهتك عنايته، و لا في مستودعك في الرحم حين قابلتك رعايته إخلاص أعمال، و لا وجود أحوال تستحق بهما وجود الموال، بل لم يكن في ذلك الوقت إلا محض الأفضال و عظيم النوال..

   قال الواسطي رضي الله عنه: أقسام قسمت، و نعوت أجريت، كيف تستجلب بحركات، أو تنال بمعاملات، و قال الشاعر:

      فـلا عمـل منـي اكتسبتــه      *****     سـوى محض فضل لا بشـيء يعــلل

 و قال آخــر:

             و كنـت قديما أطلب الوصـل منهـم   *****    فلمـا أتاني العلـم و ارتفـع الجهـل

             علمـت بـأن العبـد لا طلـب لـه    *****    فإن قربوا فضل و إن بعــدوا عـدل

              و إن أظهروا لم يظهروا  غير  وصفهـم   *****    و إن ستروا فالستر من أجلهـم يحلـو

   و قال آخــر:

         قد كنـت أحسب أن وصلك يشترى     *****       بنفـائس الأموال و الأربـــاح

         و ظننت جهـلا أن حبـك هيــن     *****      تفنى عليـه كــرائــم الأرواح

         حتى رأيتـك تجتبي و تخـص مــن     *****       تختـاره بلطــائـف الأمنــاح

          فعلمـت أنك لا تنــال بحيلــة      *****      فلويت رأسي تحت طي جنـاحــي

          و جعلت في عش الغرام إقامتـــي     *****      فيه غـــدوي دائما و رواحــي

 

   و لهذا لم يلتفت قلب العارف لخوف و لا رجاء، و لم يبق له في نفس غير وجه الله حاجة، فتحصل أن الولاية، و هي سر العناية، لا تنال بحيلة، و لا تدرك بطلب، لكن من سبقت له العناية يسر لما أريد منه، قيل لذي النون: بم عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، و لولا ربي ما عرفت ربي/.

   و قيل لعلي كرم الله وجهه، هل عرفت الله بمحمد، أو عرفت محمدا بالله؟ قال: لو عرفت الله بمحمد ما عبدته، و لكان محمد أوثق فيّ من الله، و لكن الله عرفني بنفسه، فعرفت محمدا بالله، و هنا انتهت معرفة العارفين، أعني حين تحققوا بسابق القدر غابوا عن أنفسهم في وجود معروفهم، فاستراحوا واستظلوا في ظل الرضا و التسليم، و هبّ عليهم من جنان المعارف نسيم، لكن اختلفت أحوالهم في حال نهايتهم، الماء واحد و الزهر ألوان..

   فمنهم من تغلب عليه الهيبة و الحياء، قال بعضهم: من ازدادت معرفته ازدادت هيبته له، و من كان بالله أعرف كان لله أخوف، و فيهم قال تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) فاطر28.

   و منهم من يغلب عليه الشوق و الاشتياق، قال بعضهم: من عرف الله اتسم بالبقاء و اشتاق إلى اللقاء، و ضاقت عليه الدنيا بحذافيرها، و قال السري: أجل مقام العارف الشــوق، يقول الله تبارك و تعالى: إن لي عبادا من عبادي أحبهم و يحبوني، و أشتاق إليهم و يشتاقون إليّ، و أذكرهم و يذكروني، و أنظر إليهم و ينظرون إليّ، من سلك طريقهم أحببته و من عدل عنهم مقته، قيــل، يا ربنا و ما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، يحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل و اختلط الظلام، و فرشت الفرش و نصبت الأسرة، و خلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم، و افترشوا إلى وجوههم و ناجوني بكلامي، و تملقوا إلي بأنعامي، فمن صارخ و باك، و من متأوه و شاك، و من قائم و قاعد، و من راكع و ساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، و بسمعي ما يشكون من حبي، أول ما أعطيهم ثلاثا، أقذف في قلوبهم من نوري، فيخبرون عني كما أخبر عنهم، و الثانية لو كانت السماوات و الأرض و ما فيهن من موازينهم لاستقللتها لهم، و الثالثة أقبل عليهم بوجهي، أترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد أن أعطيه /.

   و قال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: غيبني الشوق يوما، فقلت: يارب إن أعطيت أحدا من المحبين ما تسكن به قلبهم قبل لقائك، فاعطني ذلك، فقد أضرني القلق، فرأيت في النوم كأني أوقفني بين يديه و قال إبراهيم: ما استحييت أن تسألني أن أعطيك ما يسكن قلبك قبل لقائي، و هل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه، فقلت: يا رب تهت فلم أدر ما أقول، فاغفر لي و علمني ما أقول، فقال لي قل: اللهم رضني بقضائك، و صبرني على بلائك، و أوزعني شكر نعمائك..

   و منهم من تغلب عليه السكينة في القلب، لأن العلم و اليقين يوجبان السكون و الطمأنينة، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته، قال تعالى:( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد28..

   و منهم من يغلب عليه الدهش و الحيرة قال بعضهم: أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه، و في الحديث: اللهم زدني فيك تحيرا..

   و منهم من يغلب عليه التواضع و الخضوع و الذل و الانكسار، قال الجنيد: العارف كالأرض يطأها البر و الفاجر، و كالسحاب يضل الأحمر و الأبيض، و كالمطر يسقي الماشي و الراشي..

   و منهم من تتسع معرفته و يخوض بحار التوحيد فلا يدركه شيء و لا يستوحش من شيء، قال أبو تراب: العارف به يصفو كدر كل شيء و لا يكدره شيء/.

   و قال أبو سليمان الداراني: إن الله يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح له و هو قائم يصلي، و قال بعضهم: العارف من آنس بذكره حتى استوحش من خلقه و افتقر إلى الله حتى أغناه عن خلقه، و ذل إلى الله تبارك و تعالى فأعزه الله في خلقه..

   و في زبور داود عليه السلام: يا داود بلغ أهل رضائي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و أنيس لمن أنس بذكري، و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني، و مطيع لمن أطاعني، بعزتي حلفت، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا في قلبه إلا قبلته لنفسي، و أحببته أشد مما أحبني، و من طلبني وجدني، و من طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها، و هلموا إلى كرامتي و مصاحبتي و مجالستي، و أنسوا أؤنسكم بي، و اسرعوا إلى محبتي أسرع إلى محبتكم، فإني خلقت طينة أحبتي من طينة إبراهيم خليلي و موسى كليمي و عيسى روحي و محمد صفيي، و خلقت قلوب المشتاقين من نوري، و نعمتهما من جمالي و جلالي/.

 

سر الرحمة بين العمل و المشيئة

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire