لا يكن طلبك سببا للعطاء منه، فيقل فهمك عنه، و ليكن طلبك لإظهار العبودية و قياما بحقوق الربوبية ،

   قلـت: قد تقدم في أول الكتاب أن الطلب كله معلول عند ذوي الألباب، فإن كان و لا بد من الطلب، فليكن إظهارا للعبودية و قياما بحقوق الربوبية، فلا يكن طلبك من الحق سببا إلى العطاء، فيقل فهمك عنه، لأن الفهم عن الله يقتضي الاكتفاء بعلمه و الاستغناء بمعرفته، فلا يحتاج إلى شيء و لا يتوقف على شيء، ماذا فقد من وجدك، فلا يكن محط نظره إلا ما يبرز من عنصر القدرة، و لا يشتهي إلا ما يقضيه عليه مولاه..

   قيل لبعضهم: ماذا تشتهي، قال: ما يقضي الله..

   قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: لا يكن حظك من الدعاء الفرح بقضاء حاجاتك، و من مناجاة محبوبك، فتكون من المحجوبين.. و قال بعضهم: فائدة الدعاء إظهار الفاقة بين يديه و إلا فالرب يفعل ما يشاء.. قيل إن سيدنا موسى عليه السلام قال: يا رب أطعمني فإني جائع، فأوحى الله إليه قد علمت ذلك، قال يا رب أطعمني، قال له: حتى أريد، و هذا مقام أهل النهايات، و أما أهل البدايات فيرخص لهم في طلب الحاجات و في كثرة الدعاء و التضرعات، فالدعاء في حقهم واجب أو مندوب، و فيهم ورد الترغيب و الإلحاح فيه، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) و قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) النمل/62، و ورد في بعض الأخبار أن الله تعالى قال لسيدنا موسى عليه السلام: سلني حق ملح عجينك تشريعا للضعفاء، لأن الأنبياء عليهم السلام بعثوا معلمين للضعفاء و الأقوياء، و ينبغي أن يتأدب في الدعاء، فلا يدعو بممنوع شرعا و لا ممتنع عقلا، و يكون بتلطف و انكسار و ظهور الفاقة و الاضطرار، لا انبساط و لا إذلال، فإن ذلك مقام الرجال، أهل المكانة و الكمال، و من ذلك قول الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في حزبه الكبير: و ليس من الكرم أن تحسن إلا لمن أحسن إليك... .

   و ذكر في قوت القلوب: أن بني إسرائيل تقحطوا سبع سنين، فخرج سيدنا موسى عليه السلام في سبعين ألف من بني إسرائيل ليستسقي لهم، فأوحى الله إليه كيف أستجيب لهم و قد أظلمت عليهم ذنوبهم و سرائرهم خبيثة، فدعوني على غير يقين، و يأمنون مكري، ارجع إليهم فإن عبدا من عبادي يقال له برخ، قل له: يخرج حتى أستجيب له، فسألهم موسى عليه السلام، فلا يعرفه أحد..

   و بينما موسى عليه السلام يمشي في طريق، فإذا بعبد أسود استقبله بين عينيه تراب من السجود، و قد عقد شملة على عاتقه، فعرفه موسى عليه السلام بنور الله، فسلم عليه و قال له ما اسمك، قال برخ، قال له منذ حين و أنا أطلبك، اخرج و استسق لنا، فخرج فكان من خطابه لربه في دعائه و مناجاته:

   ما هذا من فعلك، و ما هو من حكمتك، و ما بذلك عرفت، أنقصت عليك عيون مائك، أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفذ ما عندك، أم اشتد غضبك على المذنبين، ألست كنت غفارا قبل خطأ الخاطئين، خلقت الرحمة، و أمرت بالعطية، فتكون لما تأمر من المخالفين، أم ترينا أنك ممتنع أو تخشى الفوت، فتعجل بالعقوبة..، قال: فما زال حتى أخضلت بنو إسرائيل بالقطر، و أنبت الله العشب في نصف يوم حتى بلغ الراكب، قال فخرج برخ، فاستقبله موسى عليه السلام و قال له: ما هذا الخطاب الذي خاطبت به الحق، فأوحى الله إليه: أن دعه، فإن دعاءه يضحكني..

   فانظر هذه الحكاية كيف وقعت على بساط المباسطة التي لا يفهمها إلا أهل المكانة و التمكين، و حسب من لم يبلغ مقامات الرجال، الأدب و الهيبة مع رب العالمين..

   ثم بين وجه ما ذكره من كون الدعاء إنما يكون عبودية لا سببا في العطاء فقــال:

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire