مما يدلك على وجود قهره سبحانه، أن حجبك عنه بما ليس بموجب معه، كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو الذي أظهر كل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو الذي ظهر بكل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو الذي ظهر في كل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو الذي ظهر لكل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو الظاهر قبل كل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو أظهر من كل شيء، كيف يتصور أن يحجبه شيء و لولاه ما كان وجود كل شي.. يا عجبا كيف يظهر الوجود في العدم، أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف في القدم.

ممــا يدلك علـى وجود قهره سبحانـه أن حجبك عنه بما ليـس بموجـود معـه

     قلــت : من أسمائه تعالى القهـــار، ومن مظاهر قهره احتجابه في ظهوره، و ظهوره في بطونه، و بطونه في ظهوره، و مما يدلك أيضا على وجود قهره أن احتجب بلا حجاب، و قرب بلا اقتراب، بعيد في قربه، قريب في بعده، احتجب عن خلقه في حال ظهوره لهم، و ظهر لهم في حال احتجابه عنهم، فاحتجب عنهم بشيء ليس بموجود، و هو الوهم، و الوهم أمر عدمي مفقود، فما حجبه إلا شدة ظهوره، و ما منع الأبصار من رؤيته إلا قهارية نوره، فتحصل انفراد الحق بالوجود، و ليس مع الله موجود، قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)القصص 77، واسم الفاعل حقيقة في الحال، و قال تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) الحديد3، و قال تعالى : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة115، و قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الحديد4، و قال تعالى: ( و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ) الإسراء 60، و قال تعالى: ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) الفتح 10 و قال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى) الأنفال 17، و قال صلى الله عليه و سلم، أفضل طامة قالها لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل
 

و كل نعيم لا محالة زائل
  

   و قال صلى الله عليه و سلم، " يقول الله تعالى: يا عبدي مرضت فلم تعذني، فيقول: يا رب كيف أعوذك و أنت رب العالمين، فيقول الله: أما أنه مرض عبدي فلان فلم تعده، فلو عدته لوجدتني عنده، ثم يقول: يا عبدي، استطعمت فلم تطعمني، ثم يقول، استسقيت فلم تسقني..." الحديث، فدل الحديث على أن هذه الهياكل و الأشخاص خيالات لا حقيقة لها، فهي أشبه شيء بالظلال، قال الششتري رضي الله عنه:

الخلق خلقكم و الأمر   أمركم

فأي شيء أنا لكنت فـي ظلل

ما للحجاب مكان في وجودكم

إلا بسر حروف أنظر إلى الجبل

أنتم دللتم عليكم منكم و لكم

ديمومة عبرت عن غامض الأزل

عرفتم بكم هذت الخبير بكـم

أنتم هم يا حياة القلب يا  أملي

   قولـه: الخلق خلقكم ... المراد بالخلق، صور الأشباح، و بالأمر سر الأرواح، أي الأشباح حكمتكم، و الأرواح سر من أسراركم، فأنا لا وجود لي أصلا، فأي شيء قدرت نفسي وجدتها لكم و مظهرا من مظاهركم، و إنما أنا ظل من ظلل وجودكم، ثم قال : ما للحجاب مكان في وجودكم، أي لا موضع للحجاب الحسي في وجودكم، إذ لو كان للحجاب مكان في وجودكم لكان أقرب إلينا منكم، و هو محال لأنك قلت و قولك الحق: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق 16،

   و قوله إلا بسر حروف... ، الاستثناء منقطع، أي لا موضع للحجاب الحسي بيننا و بينكم، لكن حجاب القهرية و رداء العزة و الكبرياء هو الذي منع الأبصار من رؤية نوركم الأصلي الجبروتي ، إذ لو ظهر ذلك النور لاضمحلت المكونات، و لاحترقت من نور السبحات، و لهذا السر أمر الله سيدنا موسى حين طلب الرؤية، بالنظر إلى الجبل، لما أراد الله أن يتجلى له بشيء من ذلك النور، فلما لم يثبت الجبل لشيء قليل منه علمنا أنه لا طاقة للعبد الضعيف في هذه الدار على رؤية الواحد القهار إلا بواسطة الأكوان الكثيفة، بعد أن نشر عليها الأردية المعنوية، و هذا معنى قوله: إلا بسر حروف، أي إلا بحجاب القهرية المفهوم من سر قوله تعالى: ( انظر إلى الجبل )، أو إلا حجابا متلبسا بسر الحكمة المفهوم من قوله تعالى: انظر إلى الجبل، و كأنه تعالى يقول : يا موسى لن تقدر أن تراني من غير حجاب الحكمة و لكن انظر إلى الجبل ، فإن أطاق ذلك فسوف تراني أنت، فلما تجلى له الحق من غير واسطة الحس جعله دكا، و خر موسى صعقا، و الله تعالى أعلم، و قال كذلك في هذا المعنى:

لقد أنا شيء عجيب  ، لن رآني

أنا المحب و الحبيب، ليس ثم   ثاني

يا قاصدا عين الخبر، غطاه أينك

الخمر منك و الخبر، و السر عندك

 

ارجع لـذتك و اعتبــر، ما ثم غيــرك

   فقوله: يا قاصدا عين الخبر، أي عين خبر التحقيق، و قوله: غطاه أينك، أي مكان وجودك الوهمي، إذ لو غبت عن وجودك لوقعت على عين التحقيق، و قوله: الخمر منك، أي شربة خمرة المحبة منك و هذا كما قــال: مني علي دارت كؤسي، و قوله و الخبر، أي و الخبر عن عين التحقيق منك أيضا ، و سر الربوبية عندك، لأنك كنز مطلسم، فإذا أردت أن تعرفه فارجع لذتك تجد الوجود كله واحدا، و أنت ذلك الواحد، قال الشاعر:

هذا الوجود و إن تعدد ظاهرا

و حياتكم ما فيها إلا أنتم

   و قال أيضا رضي الله عنه:

لقـد فشــى سـري بـلا مقـام            و قـد ظهــر عنـي فـي ذا المثـال

تـرى وجـــود غيـري في المحـال           و لكــما دونـــي خيــــال

فــي متحــد فــي كـل شــيء

أنـا المحبـوب أنـا الحبيــب             و الحــب لـي مني شـيء عجيـب

وحـدي أنـا فافـهم سـري غريــب

فمـن نظـر ذاتـي رآني شـي             و فـي حـلا ذات طــوانـي طـي

صفـاتـي لا تخفـى لمـن نظر                و ذاتـي معلومـة تلـك الصــور

إفــن عـن الإحسـان تــر عبـر

فـي السـر و المعنـى خفيت كي               لأنــه منــي ستــر علـــي

و قد اتفقت على هذا المعنى، و هو سر الوحدة، مقالات العارفين، و مواجيد المحبين و أشعارهم، كل على قدر ذوقه و شربه، جزاهم الله عنا و عن المسلمين خيرا، و لا يفهم هذه العبارات إلا أهل الأذواق و الإشارات، و من لم يبلغ لها فهمه، و لم يحط بها علمه، عليه أن يسلم ، و يوكل فهمها إلى أهلها و أربابها و ليعتقد كمال التنزيه، و بطلان التشبيه، لأن هذه المعاني أذواق لا تنال إلا بصحبة أهل الأذواق.

   ثم استدل على بطلان وجود الحجاب في حقه تعالى بعشرة أمور متعجبا من كل واحد لظهوره مع خفائه، أي لشدة ظهوره عند العارفين و شدة خفائه عند الغافلين الجاهلين، فأشار إلى الأول بقوله:

 

 

كيف يتصــور أن يحجبه شيء، و هـو الذي أظهـر كل شــيء ...

   الظاهر هو الباطن، و ما بطن في عالم الغيب هو ما ظهر في عالم الشهادة، فحياض الجبروت متدفقة بأنوار الملكوت، انظر جمالي شاهدا، في كل إنسان ، الماء يجري نافدا ،  في أس الأغصان،  تجده ماء واحدا، و الزهر ألوان 

   يا عجبا كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف، عجيب لمن يبغي عليك شهادة، و أنت الذي أشهدته كل شاهد، ثم ذكر الثاني فقـــال:

 

كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو الذي ظهر بكــل شيء

  

   بياء الجر، أي تجلى بكل شيء، فلا وجود لشيء مع وجوده، فكيف يحجبه شيء و الغرض أن لا لشيء، قال صاحب العينية رضي الله عنه:

تجليت في الأشيـاء حين خلقتــها

فها هي ميطت عنك فيهـا البــراقع

    ثم ذكر الثالث فقال :

 

كيف يتصـور أن يحجبه شيء و هو الذي ظهر في كــل شيء

  

   بقدرته و حكمته، القدرة باطنة و الحكمة ظاهرة، فالوجود كله بين قدرة و حكمة، و بين جمع و فرق، و قد تقدم قول بعضهم: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه، أي بقدرته و حكمته، فلوى ظهور أنوار الصفات ما عرفت الذات، و لا الحس ما قبضت المعنى، و لولا الكثيف ما عرفت اللطيف، و للششتري رحمه الله:

محبوبي قد عم الوجود

و قد ظهر في بيض و سود

و في النصارى مع اليهود

و في الخنازير مع القرود

و في الحروف مع النقط

افهمني قط ، افهمني قط

ثم قــال :

عرفته طول الزمـن   **    ظهر لي في كل ألــوان   **    و في المياه و فـي الدلـوان

و في الطلـوع ، و في الهبـوط     **      افهمنـي قـط ، افهمني قــط

 

   ثم ذكر الرابع فقال:

كيف يتصور أن يحجبه شيء ، و هو الظاهر لكــل شــيء

   بلام الجر، أي التجلي لكل شيء بأسرار ذاته، و أنوار صفاته، و لما تجلى لكل شيء، و عرفه في الباطن كل شيء، و سبح بحمده كل شيء فلم يحجبه شيء عن شيء، قال تعالى: ( و إن من شيء إلا يسبح بحمده ) يقول بلسان حاله: سبحان المتجلي لكل شيء، الظاهر بكل شيء، يفهمه العارفون، و يجهله الغافلون،

 ثم ذكر الخامس فقال:

كيف يتصور أن يحجبه شيء، و هو الظاهر قبل وجود كل شيء

   فكل ما ظهر، فمنه و إليه، فكان في أزله ظاهرا بنفسه، ثم تجلى لنفسه بنفسه، فهو الغني بذاته عن أن يظهر بغيره، أو يحتاج إلى من يعرفه غيره، فالكون كله مجموع، و الغير عندنا ممنوع،

   ثم ذكر السادس فقـال:

كيف يتصور أن يحجبه شيء و هو أظهر من كل شـيء

     إذ لا وجود للأشياء مع وجوده، و لا ظهور لها مع ظهوره، و على تقدير ظهورها فلا وجود لها من ذاتاها، فلولا ظهوره في الأشياء ما وقع عليها أبصار:

من لا وجود لذاتـه من ذاتــه

فوجوده لولاه عيـن مــحال

   فالعبد في حالة الحجاب تكون نفسه وجودها عنده ضروريا، و وجود الحق عنده نظريا، فإذا عرف الحق و فنى عن نفسه و تحقق بزوالها صار عنده وجود الحق ضروريا، و وجود نفسه نظريا بل محال ضروري، قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: إنّــا لننظر إلى الله ببصر الإيمان و الإيقان، فأغنانا عن الدليل و البرهان، و إنا لا نرى أحدا من الخلق، فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق، و إن كان و لا بد، فكالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدوهم شيئا .

   زاد في لطائف المنن: و من أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إلى الله، فليت شعري هل لها وجود معه حتى توصل إليه، أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له، و إن كانت الكائنات موصلة له، فليس لها ذلك من حيث ذاتها، لكن هو الذي ولاها رتبة التوصيل فوصلت، فما وصل إليه غير إلهيته، و لكن الحكيم هو واضع الأسباب، و هي لمن وقف معها، و لا ينفذ إلى قدرته عين الحجاب، فظهور الحق أجلى من كل ما ظهر، إذ هو السبب في ظهور كل ما ظهر، و ما اختفى إلا من شدة ما ظهر، و من شدة الظهور الخفاء، و إلى هذا المعنى أشار الرفاعي بقوله:

يا من تعاظم حتـى رق معنــاه

و لا تردى رداء الكبـر إلا هــو

   أي : يا من تعاظم في ظهوره حتى خفي معناه.

   ثم ذكر السابع فقــال:

كيف يتصور أن يحجبه شيء ، و هو الواحد الذي ليس معه شــيء

    

   لتحقق وحدانيته أزلا و أبدا، كان الله و لا شيء معه، و هو الآن على ما عليه كان، أإلــه مع الله، تعالى الله عما يشركون، أفي الله شك، فكل ما ظهر للعيان، فإنما هو مظاهر الرحمن، قال صاحب العينية رضي الله عنه:

تجلى حبيبي في مرائي جماله

ففي كل مرأى للحبيب طلائع

فلما تجلى حسنه متنوعـا

تسمـى بأسماء فهن مالــع

   فالحق سبحانه واحد في ذاته و في صفاته و في أفعاله ، فلا شيء قبله و لا شيء بعده و لا شيء معه.

   ثم ذكر الثامن فقــال:

 

كيـف يتصور أن يحجبـه شيء ، و هو أقرب إليك من كــل شــيء

    

    قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق/16، و قال تعالى: (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) طه/7، فقربه تعالى قرب علو و إحاطة، و شهود لأقرب مسافة، إذ لا مسافة بينك و بينه، و تقدم في الحديث، و إن الله ما حل في شيء و لا غاب عن شيء، و قال سيدنا علي كرم الله وجهه، الحق تعالى ليس من شيء و لا في شيء و لا فوق شيء و لا تحت شيء، إذ لو كان من شيء لكان مخلوقا، و لو كان فوق شيء لكان محمولا، و لو كان في شيء لكان محضورا و لو كان تحت شيء لكان محصورا .

   و قيل له يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم، أين كان ربنا ، و هل له مكان، فتغير لونه و سكت ساعة ثم قال: قولكم أين الله سؤال عن مكان، و كان الله و لا مكان، ثم خلق الزمان و المكان، و هو الآن كما كان، دون زمان و لا مكان..

   و قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: قيل لي: يا عليّ بي، قل ، و علي دل، و أنا الكل.

   هذا كما في حديث البخاري، يقول الله تعالى: " يسب ابن آدم الدهر و أنا الدهر، بيدي الليل و النهار " و قال أيضا عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " و تفسيره ما في الحديث قبله و الله تعالى أعلم.

   ثم ذكر التاسع و قال:

كيف يتصور أن يحجبه شــيء ، و لولاه ما ظهر وجــود كـل شيء

  

   قال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) الفرقان/2 و قال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/49 فكل ما ظهر في عالم الشهادة فهو فائض في عالم الغيب، و كل ما برز في عالم الملكوت فهو فائض من بحر الجبروت، فلا وجود للأشياء إلا منه، و لا قيام لها إلا به و لا نسبة لها معه إذ هي عدم محض، و على توهم وجودها، فهي حادثة فانية، و لا نسبة للعدم مع الوجود، و لا للحادث مع القديم، و لذلك تعجب الشيخ من اجتماعهما فقـــــال:

يــا عجبا ، كيف يظهر الوجود في العدم،

أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف في الـقدم

  

   قلــت: و هذا هو العاشر، فالوجود و العدم ضدان لا يجتمعان، و الحادث و القديم متنافيان لا يلتقيان، و قد تقرر أن الحق واجب الوجود، و كل ما سواه عدم على التحقيق، فإذا ظهر الوجود انتفى ضده و هو العدم، فكيف يتصور أن يحجبه و هو عدم، فالحق لا يحجبه الباطل قال تعالى : (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يونس/32 فلا وجود للأشياء مع وجوده، فانتفى القول بالحلول، إذ الحلول يقتضي وجود السوى حتى يحل فيه معنى الربوبية، و الفرض أن السوى عدم محض، فلا يتصور الحلول، و إلى هذا أشار بالعينية بقوله:

و نزهه في حكم الحلول فما لـه

سوى و إلى توحيده الأمر راجــع

   و القديم و الحادث لا يلتقيان، فإذا قرن القديم بالحادث تلاشى الحديث و بقي القديم.

   قال رجل بين يدي الجنيد رضي الله عنه: الحمد لله، و لم يقل رب العالمين، فقال له الجنيد: كمله يا أخي، فقال له الرجل: و أي قدر للعالمين حتى يذكروا معه، فقال الجنيد: قله يا أخي، فإن الحادث و إذا قرن بالقديم تلاشى الحادث و بقي القديم ..

   فقد تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم إذ لا يثبت الحادث مع من له وصف القدم، فانتفى القول بالاتحاد، إذ معنى الاتحاد هو اقتران القديم مع الحادث، فيتحدان حتى يكونا شيئا واحدا، و هو محال إذ هو أيضا مبني على وجود السوى و لا سوى، و قد يطلقون الاتحاد على الوحدة كقول ابن الفارض:

و هامت بها روحي حيث تمازجــا

اتحادا و لا جــرم تخلله جــرم

   فأطلق الاتحاد على اتصال الروح بأصلها بعد صفائها، و لذلك قال بعده:  و لا جرم تخلله جرم، فتحصل أن الحق سبحانه واحد في ملكه، قديم أزلي باق أبدي، منزه عن الحلول و الاتحاد، مقدس عن الشركاء و الأضداد، كان و لا أين و لا مكان و هو الآن على ما عليه كان، و مما ينسب لسيدنا علي كرم الله وجهه:

رأيت ربي بعيــن قلــبي

فقلت لا شك أنت أنــت

أنت الذي حزت كل أيـن

بحث لا أيـن ثم  أنــت

فليس للأين منك أيـــن

فيعــام الأين  أين  أنـت

و ليس للوهم فيك وهــم

فيعام الوهم كيف  أنــت

أحطت علما بكل شــيء

فكل شيء أراه أنــــت

و في فنائي فنا فنائــــي

و في فنائي وجــدت أنت

   و سئل أبو الحسن النوري رضي الله عنه، أين الله من مخلوقاته، فقال : كان الله و لا أيــن، و المخلوقات في عدم، فكان حيث هو، و هو الآن حيث كان، إذ لا أين و لا مكان، فقال له السائل و هو علي بن ثور القاضي في قصة محنة الصوفية، فما هذه الأماكن و المخلوقات الظاهرة، فقال: عز ظاهر و ملك قاهر، و مخلوقات ظاهرة به و صادرة عنه، لا هي متصلة به، و لا منفصلة عنه، فرغ من الأشياء و لم تفرغ منه لأنها تحتاج إليه، و هو لا يحتاج إليها، فقال له: صدقت، فأخبرني ماذا أراد الله بخلقها، قـال: ظهور عزته و ملكه و سلطانه، قال صدقت، فأخبرني ما مراده من خلقه، قال: ما هم عليه، قال : أو يريد من الكفرة الكفر، قال: أفيكفرون به و هو كاره، ثم قال: أخبرني ما أراد الله باختلاف الشيع و تفريق الملل، قال: أراد الله إبلاغ قدرته، و بيان حكمته، و إيجاب لطفه، و ظهور عدله و إحسانه اهـ

   المراد منه، و فيه إشارة أن تجليات الحق على ثلاثة أقسام، قسم أظهرهم ليظهر فيهم كرمه و إحسانه و هم أهل الطاعة و الإحسان، و قسم أظهرهم ليظهر فيهم عفوه و حلمه، و هم أهل العصيان من أهل الإيمان، و قسم أظهرهم ليظهر فيهم نقمته و غضبه، و هم أهل الكفر و الطغيان، فهذا سر تجليه تعالى في الجملة و الله أعلم.

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire