من عرف الحق شهده في كل شيء، و من فنى به غاب عن كل شيء، و من أحبه لم يؤثر عليه شيء.

   قلـت: معرفة الحق هي شهود ربوبيته في مظاهر عبوديته، أو تقول: هي الغيبة عن الغيرية بشهود الأحدية، أو تقول: هي الترقي من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، فيكون جسمك مع الأشباح و روحك مع الأرواح..

   قال في المباحث:

و استشعروا شيئا سـوى الأبـدان          يدعـونـه بالعالم الـروحــانـي

ثـم أقــام العالـم المعقــول         معــارف تلغـز بالـمنقــــول

   و الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل شيء، و تغيبك عن كل شيء، سوى عن الواحد الذي ليس كمثله شيء، و ليس معه شيء، أو تقـول: هو شهود حق بلا خلق كما أن البقاء هو شهود خلق بحق..

   و المحبة ألا يكون له عن نفسه أخبار، و لا مع غير محبوبه قرار، و قيل غير ذلك، فمن عرف الحق شهده في كل شيء و لم يشهد معه شيئا، لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، و من شهود عالم الملك إلى فضاء الملكوت..

   و من فنى به و انجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء و لم يثبت مع الله شيئا..

و الفرق بين الفاني و العارف، أن العارف يثبت الأشياء بالله، و الفاني لا يثبت شيئا سوى الله، العارف يقرر الحكمة و القدرة، و الفاني لا يرى إلا القدرة، العارف يرى الحق في الخلق، كقول بعضهم ما رأيت شيئا إلا رأيت الحق فيه، و الفاني لا يرى إلا الحق، يقول ما رأيت شيئا إلا رأيت الحق قبله، , العارف قي مقام البقاء، و الفاني مجذوب في مقام الفناء، الفاني سائر و العارف متمكن واصل، و من أحب الله لم يؤثر عليه شيئا من حظوظه و هوى نفسه، و لو كان فيه حتف أنفه كما قال القائــل:

قالـت و قد سئلت عن حـال عاشقهـا           بالله صفـه و لا تنقــص و لا تــزد

   فقلت لو كان رهـن المـوت من  ظمـإ           و قلـت قـف عن ورود الماء لـم يـرد

   و الكلام في المحبة طويل، ذكر الشيخ في لطائف المنن منه جملة صالحة، و كلام الشيخ رضي الله عنه في باب التدلي، فالمعرفة أعلى المقامات، و قبلها الفناء، و قبل الفناء المحبة، أي أولها..

   فأول ما يقذف الله في قلب عبده الذي يريد أن يصطفيه لحضرته، و يعرفه به محبته، فلا يزال يلهج بذكره، و يتعب جوارحه في خدمته، و يتعطش إلى معرفته، فلم يزل يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه الحق، فإذا أحبه أفناه عن نفسه و غيبه عن حسه، فكان سمعه و بصره و يده و جملته، ثم رده إليه و أبقاه به، فعرفه في كل شيء و رآه قائما بكل شيء ظاهرا في كل شيء، و الله تعالى أعلــم..

   و لهذا الذي ذكره الشيخ علامات تدل على تحقيق تلك المقامات، فمن وجدها في نفسه كانت دعواه لتلك المقامات أو بعضها صحيحة، و من لم يجدها في نفسه كانت دعواه لها كاذبة ، فليعرف قدره، و لا يتعد طوره و بالله التوفيق..

إنما حجب الحق عنك لشدة قربه منك

 و لما كانت المعرفة تقتضي ظهور الحق في كل شيء حتى تراه ظاهرا في كل شيء بين وجه احتجابه و خفائه فقال:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire