ربما أطلعك على غيب ملكوته و حجب عنك الاستشراف على أسرار العباد.

   قلـت: الملكوت مبالغة في الملك، هذا في اعتبار اللغة، و أما باعتبار اصطلاح الصوفية، فالعوالم ثلاثة: ملك و ملكوت و جبروت، فالملك ما يدرك بالحس و الوهم، و الملكوت ما يدرك بالعلم و الفهم، و الجبروت ما يدرك بالبصيرة و المعرفة، و هذه العوالم محلها واحد و هو الوجود الأصلي و الفرعي، و إنما تختلف التسمية باختلاف النظرة، و تختلف النظرة باختلاف الترقي في المعرفة..

   فالوجود عند المحققين من العارفين واحد، قسم لطيف غيب، لم يدخل عالم التكوين، و قسم كثيف دخل عالم التكوين، فالأول يسمى عالم الغيب، و الثاني عالم الشهادة، و ما كان خفيا في عالم الغيب ظهر في عالم الشهادة، فمن نظر إلى حس الأشياء الظاهرة سماه ملكا، و يسمى أيضا عالم الحكمة و عالم الأشباح، و من نظر إلى أسرار المعاني القائمة بالأواني، و هي أسرار الذات القائمة بأنوار الصفات سماه ملكوتا، و من نظر إلى الأسرار الأزلية التي كانت حال الكنزية التي لم تدخل عالم التكوين سماه جبروتا..

   أو تقول: من نظر إلى الكثيف الذي دخل عالم التكوين و رآه مشتغلا بنفسه قائما بقدرة الله سمي في حقه ملكا و هو لأهل الحجاب من أهل الفرق، و من رآه نورا فائضا من النور اللطيف متصلا به إلا أنه تكثف بالقدرة و تستر بالحكمة سماه ملكوتا، و سمي اللطيف الباقي على أصله، الذي لم يدخل عالم التكوين الذي هو أول كل شيء و آخر كل شيء و محيطا بكل شيء جبروتا، فإن ضم الفرع إلى أصله و الكثيف إلى اللطيف سمي الجميع جبروتــا..

   و هذه المعاني لا يفهمها إلا أهل الأذواق بصحبة أهل الأذواق، و حسب من لم يبلغ لهذا المقام التسليم و إلا وقع في الإنكار على أولياء الله بما لم يحط به علما..

   و لنرجع إلى كلام الشيخ رضي الله عنه فنقول، ربما كشف الله عنك الحجاب، و ترقيت إلى الدخول مع الأحباب، فأخرجك من سجن رؤية الأكوان إلى شهود المكون، ومن رؤية عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فأطلعك على غيب ملكوته، فأبصرت الكون كله نورا فائضا من بحر الجبروت، فألحقته بأصله و فنيت عن شهود الملك الذي هو عالم الفرق بشهود الملكوت الذي هو عالم الجمع الذي قال فيه ابن البناء:

مهمـا تعـديــت عـن الأجســام    *****     أبصـرت نـور الحــق ذا ابتسـام

   و حجب عنك الاستشراف على أسرار العباد رحمة بك، لأنك قد تحجب بذلك عن شهود الملكوت، فلا عبرة عند المحققين بمكاشفة أسرار العباد، فقد تكون عقوبة في حق صاحبها كما يأتي، و قد يكون ذلك لمن لا استقامة له أصلا كالكهان و السحرة و غيرهم، و الغالب أن أهل شهود الملكوت يحجبون عن مكاشفة أسرار العباد لاشتغالهم بما هو أعظم و أحظى عند الله، و إنما تكون هذه المكاشفة عند العباد و الزهاد و أهل الرياضات و المجاهدات، و لا تنكر أن تكون عند العارفين، فقد تجمع لهم المكاشفة و الكشف، أي مكاشفة أسرار العباد و كشف الحجاب عن الفؤاد، إلا أن الغالب هو استغراق الروح في شهود نور الملكوت دون الاستشراف إلى أسرار العباد التي هي عالم الملك، و قد كان الشيخ أبو يعزي رضي الله عنه يطلع على سرائر الناس و يفضحهم، فكتب إليه شيخه أبو شعيب أيوب المعروف بالسارية من أزمور يحذره من ذلك و ينهاه عن هتك أسرار المسلمين، فكتب له الشيخ أبو يعزي يجيبه: ليس هذا من قدرة البشر، أن يسع أحدا معرفة أسرار العباد و إخراج عيوبهم من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، و إنما هو شيء يلقى إلي، و يقال لي: قل و أسمع الخطاب، أنت آية من آيات الله، و المراد منك أن يتوب الخلق على يديك، فتأخذني غلبة و تستولي علي ملكة، لا أقدر معها عن الكف عن القــول/.

   و كان الشيخ أبو عبد الله التاودي يقول: ما قطعه الشيخ أبو يعزي في ستة عشر سنة، قطعته في أربعيـن يوما، و لم يشم لطريقتنا غبار و الله تعالى أعلـم، و كلهم أولياء الله، نفعنا الله بذكرهم، و ليس قصدنا تنقيص أحد منهم، و إنما مرادنا أن طريق المكاشفة ليست هي النهاية، بل قال بعضهم: هي البداية، و بالله التوفيق.

   و قد تكون وبالاً في حق المريد، كما أبان ذلك بقولـه:

 

التخلق بالرحمة شرط في الاطلاع على أسرار العباد

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire